12/08/2010 |
ينبئنا التاريخ بقاعدة ثابتة مفادها أنّ الإمبراطوريات تنشأ وتتمدد وتقوى حتى إذا بلغت قوتها حدّا معينا بدأت لديها 'المراحل العكسية' من انكماش وتفكك، وذلك في ظاهرة تكررت في شتى بقاع العالم وفي كل الأزمنة، ولا مناص من أن تواصل تكرار نفسها، رغم ما قيل وما بُثَّ في الأذهان عن نهاية التاريخ التي لا تعدو أن تكون في نظري أكثر من محاولة من مفكرين أمريكيين، وعلى رأسهم فوكوياما، لإمداد الإمبراطورية الأمريكية بالوقود الايديولوجي اللازم لإطالة أمد مرحلة القوة أو بالأحرى مرحلة الاستقواء، وبالتالي تأخير مرحلة الانكماش وباقي المراحل العكسية. غير أن هناك أسئلة جوهرية حول موضوع الإمبراطوريات لا يمكن أن نجد لها إجابات جاهزة في كتب التاريخ، أسئلة لا تكفي الأحداث والوقائع التاريخية مجرّدةً، لإلقاء الضوء عليها بما يستقيم مع المنطق، ويبدّد أي غموض أو تناقض، وينزع عن الأحداث 'عجائبيتها' التي يمكن أن تشكّل عائقا أمام فهم أعمق وأوضح للظاهرة التاريخية، أسئلة كثيرة تبقى مطروحة في موضوع الإمبراطوريات يتطلبُ إيجاد إجابات لها استقراء الأحداث والوقائع التاريخية، بعيدا عن تحليلات وآراء معاصريها أو المعنيين بها، وفي ضوء ما سبقها وما تلاها من أحداث، ولكن أيضا باستغلال أيِّ اكتشاف جديد ذي صلة بمناهج وأدوات البحث العلمي، في التشريح والبيولوجيا الوراثية ورصد الآثار بالأقمار الاصطناعية، والفيزياء النووية وبالأخص منها ما يتعلق باختبارات الكربون 14 التي ما فتئ التطور فيها يقلص هامش الخطأ في تحديد عمر القطع الأثرية والهياكل البشرية، مما قد يساعد على كشف بعض من ألغاز التاريخ حول نشأة الإمبراطوريات وأسباب انهيارها، فالبشرية بلغت مرحلة لا مثيل لها من حيث الكشوفات والاختراعات والتقدم العلمي والتقني، وبدأنا بالفعل نكتشف مثلا أن الإمبراطورة الفلانية لم تنتحر وإنما ماتت بلدغة أفعى، وأن الفرعون الفلاني مات جراء مرض معين ولم يُقتل كما كان يعتقد، وأن مدينة كذا كانت أكبر مما يعتقد أو أنها لم تكن مركزاً تجاريا، واتضح أن التاريخ ينطوي على مناطق ظل كثيرة تحتاج إلى استكشاف، وتبيّن أنّ تاريخ الإمبراطوريات بالذات يطرح من الأسئلة أكثر مما يجيب عنه. وإذا كان معلوما أن الإمبراطوريات تنشأ معظمها إذا تهيأت ظروف معينة، وباستعمال قوة السلاح للغزو أو فرض العهود والمواثيق، وأنها تحتاج في الغالب مع القوة العسكرية والاقتصادية إلى إطار ايديولوجي يسوغ لمركز الإمبراطورية التوسّع والسيطرة على الأطراف أو الأقاليم بفرض نوع من التخلي عن السيادة وقبول الحماية والولاء الطوعي، فإنه مازال على الباحثين إن أرادوا مزيدا من 'التقعيد' النسبي لظاهرة الانهيار الحتمي للإمبراطوريات أن يقدموا إجابات لأسئلة مثل: متى تموت فكرة الإمبراطورية، وهل تموت أصلا كفكرة؟ بمعنى هل تبلغ الإمبراطوريات إذا ضعُفت مرحلة التفكك والأفول النهائي، أم أن مركز الإمبراطورية (نَواتها) غالبا ما يُعيد الكَرَّةَ حين تتغيّر ظروفُ وتتهيأ أخرى، فيتجاوز مرحلة الانكماش ليعود بالإمبراطورية من جديد وإن طال الزمن إلى مرحلة التوسع والاستقواء، ولو تحت مسمى جديد؟ لا يمكن في اعتقادي، مع بقاء إيطاليا وإيران واليونان وتركيا مثلا أن نعتبر الإمبراطوريات الرومانية أو الفارسية أو الإغريقية أو العثمانية أو حتى الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة كإسبانيا وبريطانيا واليابان وألمانيا وبلجيكا وفرنسا وروسيا، إمبراطوريات بائدة، لأن بقاء المركز- النواة لكلّ منها وعدم تفككه يبقي قائما إمكانية انتقال هذه الإمبراطوريات مجدّدا من مرحلة الانكماش أو الكمون، التي هي فيها الآن إلى مرحلة التوسّع والاستقواء، ما لم تتعرّض قبل ذلك للتفكك كما ينذر بذلك الوضع المتأزم بين العِرقيات في بلجيكا وإسبانيا وروسيا وحتى فرنسا، باعتبار تفاقم أزمة الفرنسيين من أصول أجنبية. ونحن نرى كيف أن بعضا من هذه الإمبراطوريات ما زال يحتفظ بمستعمرات ومناطق نفوذ بعيدة، كما تفعل فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، وتدافع بشراسة عن وجودها بتلك المناطق والمستعمرات، رغم التكلفة الباهظة لوجودٍ يبدو كماليا، لكنه بالنسبة إليها يمثل ضمانة لاستمرارية الإمبراطورية وتفادي انزلاقها إلى الانكماش أو التفكّك، بل إنه 'الوقود الاستراتيجي' للإمبراطورية، في مقابل ما يلزمها من وقود ايديولوجي واقتصادي وعسكري. ورغم كونها إمبراطورية 'غير أصيلة' أو ما يشبه إمبراطورية اصطناعية هجينة، لا تخرج الإمبراطورية الأمريكية عن التصنيفات السالفة الذكر. ولأنها إمبراطورية بلا 'مركز- نواة' ما دامت نِتاجَ السطو على قارّة وإبادة سكانها الأصليين وتقسيمها بعد التطاحن حولها إلى ولايات (بالمسطرة والقلم)، وليست نتاجَ ضم أو التحام دولٍ أو أقاليم عريقةٍ، فإن أخشى ما تخشاه الإمبراطورية الأمريكية هو نفاذ وقودها الاستراتيجي ووقودها الايديولوجي، لأنها ستنزلق في تلك الحالة مباشرة من مرحلة التوسع والاستقواء (المتذبذب) التي هي عليها حاليا، إلى مرحلة التفكّك النهائي، من دون المرور بمرحلة الانكماش لعدم وجود مركز بحجم جغرافي وسكاني محدود يمكن أن ينكفئ على نفسه، كما أنه يصعب تصور أن تنكفئ على نفسها قارة بأكملها كأمريكا. لذلك دخلت الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية القرن الماضي في سباق محموم ومتواصل للحيلولة دون نضوب وقود إمبراطوريتها الاستراتيجي-العسكري والايديولوجي أيضا (أو ربّما لتخصيب وقود الإمبراطورية أحيانا)، فشاركت في الحربين العالميتين الأولى والثانية وخاضت الحرب الكورية وحرب فيتنام وتدخلت في نيكاراغوا وبنما ولبنان والصومال واعتدت على مصر عبد الناصر والقذافي وحوثيي اليمن وقبائل باكستان، وهي اليوم بصدد خوض حربين متزامنتين في العراق وأفغانستان، وتقول عن حرب العراق بأنها 'حرب غير ضرورية' لأن الأكذوبة الايديولوجية المتمثلة في رغبتها بنشر الحرّية والديمقراطية لم تنطل على أحد، بينما تصف حرب أفغانستان بالحرب الضرورية لأن أدلجة الإرهاب ما زالت عملة رائجة. إنّ محاولات الولايات المتحدة تأسيس 'الإمبراطورية الشاملة المُعولَمة' ستفشل لا محالة فشلا ذريعا بدليل فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير وكافة مشاريع الهيمنة على المدى الطويل. وما وهم نهاية التاريخ إلا فرية عكسها هو الصحيح، إذ يمكن القول إن البشرية قد دخلت عهد 'بداية التاريخ غير المزيف' لذلك فالأجدر أن نتحدّث بالفعل عن 'نهاية تزييف التاريخ' بدل الحديث عن 'نهاية التاريخ'، نهاية إمكانية تزييف التاريخ ستسهم فيها عوامل عدة من بينها: سنّ العديد من الأنظمة قوانين تقضي برفع السرية عن الوثائق السياسية والعسكرية بعد انقضاء فترة معينة. التطور العلمي والتقني في وسائل الاتصال والأجهزة والأنظمة المعلوماتية وفي تسجيل وحفظ ونقل المعلومات والمعطيات التي تجعل من ملايين المتتبعين عبر العالم شهودا وموثقين، وتجعل منهم بالتالي مؤرِّخين بشكل من الأشكال. ونحن نرى اليوم كيف أنَّ صحيفة مرموقة أو قناة متخصصة أو حتى موقعا إلكترونيا جريئا، يمكنه أن يكشف ما تحرص على إخفائه أقوى الأنظمة وأشهر الأنظمة الاستخبارية. عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس االعربي اللندنية |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق