عبد الباري عطوان
عملية 'الموساد' التي تمثلت في اغتيال الشهيد محمود المبحوح، احد مؤسسي كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة 'حماس'، لم تفضح فقط بعض الاجهزة الامنية في السلطة الفلسطينية، وتعاون بعض عناصرها وقياداتها مع المخابرات الاسرائيلية، وانما فضحت الدول الاوروبية وتواطؤها مع الارهاب الاسرائيلي، خاصة ان هذا الارهاب موجه فعلا الى العرب والمسلمين.
فوجئنا بصمت الحكومات الغربية التي استخدمت وحدة 'الموساد' جوازات سفر عدد من مواطنيها لتنفيذ عملية الاغتيال هذه في مدينة دبي، وفوجئنا اكثر بالتقارير التي نشرتها صحف بريطانية صباح الجمعة، وتقول ان الاسرائيليين ابلغوا نظراءهم البريطانيين ان عملاءهم سيستخدمون جوازات سفر بريطانية، الامر الذي يؤكد ان الاجهزة البريطانية متواطئة اولا، وتشجع الارهاب الاسرائيلي ضد العرب.
صحيح ان الحكومة البريطانية سارعت الى نفي هذه التقارير الصحافية، ولكن عدم اقدامها على اتخاذ اي اجراء ضد الاسرائيليين، يؤكد ان الغضب البريطاني الرسمي الذي شاهدناه من خلال استدعاء السفير الاسرائيلي الى مقر وزارة الخارجية البريطانية كان مسرحية سيئة الاخراج والتمثيل معا.
' ' '
السيدة مارغريت ثاتشر رئيسة الحكومة البريطانية السابقة طردت 13 دبلوماسيا اسرائيليا، واوقفت التعامل الامني مع اسرائيل عام 1987 عندما استخدم 'الموساد' جوازات سفر بريطانية في تنفيذ عمليات ارهابية مماثلة، ونشك ان يقدم غوردون براون، رئيس الحكومة وأحد أبرز المؤيدين لاسرائيل، ورئيس جمعية اصدقائها الاسبق، على خطوة كهذه.
ان هذه المواقف المخجلة والمتواطئة من قبل حكومات اوروبية استُخدمت جوازات سفرها، يؤكد لنا ان المسؤولين الاسرائيليين كانوا على حق عندما قالوا 'انها زوبعة في فنجان'، وسرعان ما يهدأ غبار هذه الضجة، وتعود المياه الى مجاريها بعد اسبوع على الاكثر. فكل ما يتطلبه الامر هو 'اعتذار' اسرائيلي ويتم طي هذا الملف.
اسرائيل استخدمت اسلوب الاعتذار نفسه مع كندا ونيوزيلندا عندما استخدمت جوازات سفرها في عمليات مماثلة (محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان عام 1997)، ومع ذلك لم تتأثر العلاقات الكندية ـ الاسرائيلية مطلقا بل ازدادت قوة وصلابة.
انه ارهاب اسرائيلي، يتساوى مع كل ارهاب آخر بما في ذلك ارهاب تنظيم القاعدة، ان لم يكن اخطر، لسبب بسيط وهو ان 'القاعدة' ليست دولة عضواً في الامم المتحدة، ولا تتدعي انها الديمقراطية الوحيدة وعنوان الحضارة الغربية في المنطقة العربية.
الارهاب الاسرائيلي الذي يمارس بمساعدة غربية هو الذي يعطي المبررات، اتفقنا معها او اختلفنا، لتنظيم 'القاعدة'، وكل التنظيمات المتشددة الاخرى لتجنيد الشباب المسلم المقهور والمهان لتنفيذ عملياته بتفجير الطائرات ومحطات القطارات. وهذا لا يعني تبرير اي نوع من الارهاب.
' ' '
جهاز 'الموساد' الاسرائيلي يتصرف وكأنه فوق جميع القوانين، يرسل القتلة الى عواصم دول معتدلة حليفة للغرب، ينتهك سيادتها في وضح النهار، وينفذ جرائمه وهو مطمئن الى دعم الولايات المتحدة الامريكية واوروبا حتى لو استخدم جوازات سفرها دون علمها.
الدول الغربية تنفق مئات المليارات تحت ذريعة محاربة الارهاب العربي الاسلامي، لكنها تفقد المصداقية والاصدقاء الذين لا يمكن ان تنجح بدونهم عندما لا تحرك ساكنا امام الارهاب الاسرائيلي، الذي هو ابو الارهاب العالمي وأمه، ما يجعل هذه الاموال هدرا وبلا فائدة.
نطالب الحكومات العربية بمعاقبة الدول المتواطئة مع هذا الارهاب الاسرائيلي بصمتها على انتهاك سيادتها، واستخدام جوازات سفرها في تنفيذ عملية ارهابية في امارة مسالمة معتدلة، بتهديدها بوقف كل اشكال التعاون الامني معها اذا لم تتحرك بسرعة لمعاقبة اسرائيل، والضغط عليها لتقديم القتلة الى العدالة في اسرع وقت ممكن، ولكننا نعرف جيدا ان معظم الحكومات العربية فاقدة السيادة، عديمة النخوة، ترضخ بالكامل لتعليمات الغرب واملاءاته.
بقي ان نقول ان السلطة الفلسطينية التي ثبت تورط اثنين من ضباطها السابقين في هذه الجريمة الارهابية، فقدت كل ما تبقى لها من هيبة او مصداقية، وهي لا تستحق ان تمثل حتى لو فلسطيني واحد، اذا لم تبادر فورا، وتعاقب الرؤوس الكبيرة، وتنظف صفوفها من كل عملاء الموساد وفي اسرع وقت ممكن.
فضيحتان في اقل من اسبوع، واحدة متورط فيها جهاز مخابرات من المفترض ان يعمل ضد اسرائيل ولمصلحة حماية المواطن الفلسطيني، تحول الى اداة للتجسس على المواطنين الفلسطينيين، بل ومسؤولي السلطة انفسهم، بهدف الابتزاز، وبما يخدم المصالح الاسرائيلية، والفضيحة الاخرى العمل لمصلحة 'الموساد' من اجل تصفية احد المناضلين الشرفاء الذي سخر حياته لخدمة قضيته ومواجهة الاحتلال.
' ' '
عملية اغتيال المبحوح كانت مؤلمة ومهينة في الوقت نفسه، مؤلمة لانها طالت شخصية وطنية مجاهدة، ومهينة لانها وقعت في بلد عربي، ولكن 'لعل الخير يأتي من باطن الشر'، فقد كانت مفيدة لانها عرّت السلطة وبعض قياداتها العاملة لمصلحة اسرائيل، مثلما كشفت النفاق الغربي في ابشع صوره واشكاله.
ان الذين يدعمون الارهاب الاسرائيلي، ولو بغض الطرف عنه، لا يمكن الا ان يكونوا ارهابيين.
الحديث في واشنطن او لندن او اي عاصمة غربية اخرى حول مكافحة الارهاب سيتحول الى مادة للسخرية، طالما ان هذه العواصم تشارك بشكل غير مباشر في الارهاب الاسرائيلي.
الدول الغربية تستعد حاليا لفرض عقوبات اقتصادية على ايران، وهي التي لم تمارس او تدعم عملية ارهابية واحدة، ووضعت ليبيا تحت حصار ظالم، وحاصرت العراق 13 عاما، ووضعت 'حماس' على قائمة 'الارهاب' وهي التي لم تنفذ عملية عسكرية واحدة خارج الاراضي المحتلة، فلماذا لا نرى حصارا على اسرائيل، وعقوبات اقتصادية ضدها، وهي تمارس الارهاب ليل نهار وتعتدي على دول آمنة بصفة دورية؟
متى نرى نهاية لهذا النفاق المفضوح؟
سقوط مدوٍ لاسطورة 'الموساد' |
عبد الباري عطوان
الضرر الكبير الذي لحق بإسرائيل من جراء جريمة اغتيال الشهيد محمود المبحوح في امارة دبي، لا يتعلق فقط بانفضاح صورتها كدولة تمارس الارهاب، وتطعن حلفاءها الغربيين في الظهر، وتخون ثقتهم باستخدام جوازات سفرهم، لتسهيل عملياتها الارهابية هذه، وانما ايضا في سقوط اكبر خرافة صدّقها الغرب، وانخدع بها العرب، وهي 'خرافة الموساد'.
الاسرائيليون قدموا انفسهم الى العالم الغربي على انهم خبراء في محاربة الارهاب، واساتذة في علوم التجسس واختراق الجماعات المتطرفة، لتثبت عملية اغتيال المبحوح في دبي، والطريقة التي نفذت بها، انهم مجرد 'هواة'، ينتمون الى مدرسة متخلفة، ويتبعون اساليب بالية عفا عليها الزمن.
ومع سقوط اكذوبة 'الموساد' هذه سقطت ايضا اكذوبة اخرى اسمها الديكتاتوريات العربية، التي حظيت بحماية خاصة من الدول الغربية بسبب ادوارها المزعومة في محاربة 'الارهاب الاسلامي' وجماعاته، لنكتشف ان هذا 'الارهاب' يتزايد، وتتوسع دائرته، وتتضاعف خطورته بفضل هذه الدكتاتوريات وفسادها، واجهزتها الامنية البالية والقمعية، بحيث يتضاعف الثمن الذي يدفعه الغرب من جراء خبرات هؤلاء الحلفاء غير الموجودة، بل وذات الاثر العكسي تماما.
جهاز 'الموساد' حقق هذه الشهرة الكبيرة ليس بفضل عبقرية القائمين عليه، وانما بسبب ضعف نظرائه من الاجهزة العربية، وهي اجهزة تستهلك ميزانيات هائلة من قوت الشعب وامواله، وتنتقل من فشل الى آخر، لأسباب عديدة ابرزها انها انحرفت عن مهامها التي اوجدت من اجلها، اي حماية الوطن والمواطن، لتركز كل اهتمامها وجهودها على حماية النظام وإطالة عمره، وفساده، بمختلف الطرق والوسائل.
عملاء الموساد تحولوا الى تلاميذ هواة عندما جوبهوا بجهاز امني متيقظ وعصري تتميز به شرطة امارة دبي، وهي شرطة دخلت عصر 'الديجيتال' قبل سنوات، وامتلكت خبرات غير عادية في تحليل المعلومات والوصول الى النتائج المطلوبة بدقة غير مسبوقة في اكثر الدول تقدما في مجال الاستخبارات.
' ' '
افيغدور ليبرمان الذي كان يمشي كالطاووس فرحا وغطرسة، بعد وصول الانباء الاولى عن نجاح خلية الموساد في اغتيال الشهيد المبحوح، بدا مكفهر الوجه امام نظرائه الاوروبيين الذين استدعوه الى بروكسل يوم امس لتوبيخه على استعمال جوازات سفرهم في هذه الجريمة الارهابية، والاكثر من ذلك، محاولاته اليائسة للتنصل من العملية بطرق ساذجة لا تقنع اطفال الحضانة من شدة سذاجتها.
فإذا كان جهاز 'الموساد' لا يقف خلف هذه العملية فلماذا يستدعي وزراء الخارجية الاوروبيون نظيرهم الاسرائيلي الى بروكسل لتقديم توضيحات؟ ولماذا يقبل هذا الاستدعاء اذا كانت بلاده بريئة مثلما يدعي كذبا، ولماذا تستدعي بريطانيا وايرلندا وفرنسا سفراء اسرائيل في عواصمها للغرض نفسه؟ على من يكذبون ويتجمّلون؟
اسطورة الموساد المزعومة انهارت بطريقة مزرية في امارة دبي، لان قادة هذا الجهاز، الذي بنى امجاده على القتل والارهاب، حسب مزاعمهم الكاذبة، على درجة عالية من الغباء، بحيث لم يستوعبوا ان العالم يتطور حولهم، وان اساليبهم وخبراتهم متخلفة، ونجاحاتهم وهمية، وسمعتهم مبالغ فيها بشكل متعمد، لارهاب اجهزة عربية في تجمع دول المواجهة سابقا، والتي ما زالت تعيش في العصر الحجري، وتتمسك بأسلوب 'ما هو اسم ابيك الثلاثي واسم امك الرباعي' في مطاراتها.
عشرون عنصرا تابعون لجهاز 'الموساد' يجنّدون لاغتيال شخص اعزل، وفي دولة عربية مسالمة معتدلة ومفتوحة، يؤمها الملايين سنويا بغرض السياحة او العمل، فأين العبقرية والابداع في ذلك؟!
عندما شاهدت الشريط المصـــور للخلية المنفــــذة وتحــــركاتها، شـــعرت كما لو انني اشاهد فيلما مصرياً يعود الى حقبة الخمسينات او الستينات من افلام الابيض والاسود. عمــــلاء مخابرات يرتــدون قبعات، او 'باروكات' شعر مستعار، ويتنقلون بملابس التنس، ويضعون ذقونا او شوارب مستعارة، ويبدو من حركاتهم انهم لا يعرفون انهم في مدينة توجد فيها 1500 كاميرا، وجميع فنادقها مزودة بكاميرات ترصد تحركات النمل في ردهاتها وممراتها.
' ' '
الحكومات الغربية يجب ان تكون اول من يستخلص الدروس من هذا الفشل الاستخباري الاسرائيلي الذريع من حيث اعادة النظر بالكامل في الاسطورة الامنية الاسرائيلية الكاذبة والمزورة التي يعتمدونها كأداة موثوق بها وبقدراتها في حربهم ضد ما يسمى الارهاب.
فمن العار على هذه الحكومات ان ترسل بقوائم الركاب العرب والمسلمين الى 'الموساد' للتأكد من هوياتهم وعدم انتمائهم الى المنظمات الارهابية، باعتباره المرجعية الاهم في هذا الخصوص، بينما سجل هذه المرجعية حافل بالاخفاقات والاخطاء القاتلة.
ومن العيب ان تدفع بعض الدول الاوروبية والافريقية عشرات الملايين من الدولارات لاستقدام مدربين وخبراء اسرائيليين لتدريب اجهزتها حول كيفية محاربة الارهاب، وهؤلاء الخبراء سقطوا بشكل مخجل في حربهم ضد 'حزب الله' او حركة 'حماس'، حيث نجحت الحركتان في اختراق الاجهزة الاسرائيلية نفسها، وخطف جنود من قلاعهم المحصنة، وفي وضح النهار، رغم الفارق الكبير في الامكانيات البشرية والمادية والعلمية.
' ' '
الحكومات العربية، والممانعة منها على وجه التحديد، يجب ان تستخلص الدروس بدورها من عملية الموساد الفاشلة في دبي، باعادة النظر في جميع اجهزتها الامنية وطريقة عملها، لمنع اي اختراقات جديدة ومخجلة على غرار الاختراقات السابقة لجهاز 'الموساد'، التي تمثلت في عمليات اغتيال جرى تنفيذها في اكثر من عاصمة عربية وبطرق مذلة، اعقبها صمت مخجل، وتعتيم كامل على المعلومات لتجنب الفضيحة.
المسألة لا تحتاج الى ميزانيات مالية ضخمة لشراء اجهزة ليست في متناول اليد، فكاميرات التصوير التي كشفت سذاجة عملاء الموساد في دبي، تباع حالياً في محلات كثيرة في العواصم العربية، وتركيبها او تشغيلها لا يحتاج الى خبراء أجانب، فقط الى اناس مخلصين يعيّنون لكفاءتهم وليس لانهم من قبيلة او عائلة او طائفة الحاكم.
ويكفي القول بان اقتطاع نسبة عشرة في المئة من عوائد عمولات وارباح رجال الاعمال المقربين من الاجهزة الامنية، او المحميين من رجالاتها، او حتى العاملين تحت مظلتها، تكفي لتجهيز عدة اجهزة امنية كفوءة وفاعلة، وليس جهازاً امنياً واحداً.
اسطورة 'الموســــاد' سقطت، وستسقـــط اكثر الى الحضيض، عندما تعود معظم الانظمة العربية الى رشدها وبوصلــــتها الحقيـــقـــية، وتعـــــمل من اجل مصلحة الوطن والمواطــن، وليـــس ضدهما مثلما هو حاصل حالياً، وتجعل بوصلتها باتجاه اسرائيل، مصدر الخطر الحقيقي على هذه الامة وعقيدتها.
ابتزاز إسرائيلي لتركيا أردوغان |
عبد الباري عطوان
لا نستبعد ان يكون اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة الامريكية قد لعب دورا قويا في تصويت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الامريكي لصالح قرار يتهم تركيا بارتكاب 'ابادة جماعية' ضد الأرمن في عام 1915، وذلك بتحريض اللوبي الارمني للاقدام على هذه الخطوة، وتقديم دعم قوي له من خلف ستار.
فمن الواضح ان العلاقات التركية ـ الاسرائيلية في تدهور متصاعد منذ ان وقف السيد رجب طيب اردوغان وقفته المشرّفة في مواجهة العدوان الاسرائيلي الاخير على قطاع غزة، ومطالبته الدؤوبة بانهاء الحصار الظالم على قطاع غزة، ووقف عمليات التطهير العرقي والثقافي التي يتعرض لها الفلسطينيون ومقدساتهم في الاراضي الفلسطينية المحتلة.
اللوبي الاسرائيلي يتمتع بنفوذ قوي في الكونغرس، وكان دائما يقف الى جانب تركيا في مواجهة نظيره الارمني، ولكن بعد حدوث تغيير في مواقف تركيا تجاه القضية الفلسطينية بدأ هذا اللوبي يغير تحالفاته ويتبنى سياسات ومواقف معادية لتركيا.
قرار لجنة الكونغرس الذي فاز بصوت واحد فقط (23 صوتا مقابل 22) جاء بمثابة خطوة تخريبية لجهود المصالحة الضخمة المبذولة من قبل تركيا مع جارتها ارمينيا، ولتمكين البلدين من تطبيع العلاقات وتوقيع العديد من اتفاقات التعاون الاقتصادي.
لاسرائيل مصلحة كبرى في حصار تركيا، واقامة علاقات وثيقة مع جيرانها المختلفين معها دينيا وتاريخيا، وهذا ما يفسر فتح جرح الخلاف الارمني ـ التركي بعد ان قطع شوطا مهما على طريق الالتئام، وزيارة افيغدور ليبرمان وزير الخارجية الاسرائيلي المتطرف لكل من اليونان وقبرص اليونانية في الشهر الماضي هي محاولة اخرى لتأجيج صراع قديم متجدد بين البلدين وتركيا.
اللوبي الاسرائيلي في واشنطن لطالما 'ابتزّ' تركيا على مدى السنوات الماضية، من خلال الايحاء بأنه يدعم موقفها فيما يتعلق بمسألة مجازر الارمن، من خلال منع اللوبي الارمني القوي من اختراق الكونغرس واستصدار قرار بادانة تركيا بارتكاب 'حرب ابادة'، ويبدو انه اراد الآن ان يوجه رسالة اسرائيلية الى انقرة، من خلال دعمه الخفي، او تخليه عن التصدي للوبي الارمني في حال اثارته لمثل هذه المسألة.
' ' '
ومن المؤكد ان هذه الخطوة، اي التصويت في الكونغرس، تريد احراج الرئيس الامريكي باراك اوباما وادارته، وتوتير علاقاتها مع تركيا في اطار الضغط الاسرائيلي على الاثنتين معا، فالرئيس اوباما عارض التصويت على هذه المسألة، وتخلى عن وعده للوبي الارمني بادانة تركيا بارتكاب جرائم ابادة في حال وصوله الى البيت الابيض، بل وذهب الى ما هو ابعد من ذلك عندما اختار انقرة كمحطته الاولى في العالم الاسلامي، واشاد خلال زيارته لها بنموذجها الديمقراطي الذي يؤكد انه لا تناقض بين الديمقراطية والاسلام.
الاسرائيليون يسيطرون تماما على الكونغرس من خلال جماعة الضغط التابعة لهم، ولا نبالغ اذا قلنا ان سيطرتهم على الكونغرس اقوى من سيطرتهم على الكنيست، لانهم نجحوا في شراء معظم النواب الامريكيين الذين باتوا يصوتون لصالح القرارات التي يتقدمون بها، او يقفون خلفها، دون اي تردد، وشاهدنا كيف حظي تقرير غولدستون حول جرائم الحرب في غزة على تأييد اكثر من 400 نائب مقابل معارضة ثلاثين فقط، اي اقل من واحد في المئة من عدد النواب.
السيد اردوغان بات يشكل شوكة في حلق اسرائيل، ففي الوقت الذي نجحت فيه بترويض الغالبية الساحقة من الزعماء العرب، سواء تحت ذريعة العداء المشترك لايران والقلق المتبادل من برامجها النووية، او من خلال توظيف الحليف الامريكي في هذا الاطار، خرج السيد اردوغان من تحت العباءة الاسرائيلية واصبح المدافع الاول عن الحقوق الفلسطينية والمتصدي للجرائم الاسرائيلية في قطاع غزة، ونصير الضعفاء من ابنائه الذين طحنت اجسادهم الدبابات والطائرات الاسرائيلية بصواريخها، وقذائفها وفسفورها الأبيض.
المؤامرات على اردوغان وحزبه لن تتوقف، فبعد افتضاح مؤامرة الانقلاب التي خطط لها بعض جنرالات العسكر، ها هي مؤامرة اخرى في الكونغرس لتشويه صورة تركيا وخلق فتنة بينها وبين العالم المسيحي، وتأجيج الخلافات المنسية مع جيرانها في الشمال والجنوب.
' ' '
لا نعتقد ان السيد اردوغان سيخضع لأساليب الابتزاز الاسرائيلية هذه، لانه يمثل امبراطورية اسلامية عظمى اولاً، ولانه يستمد قوته من تجربة ديمقراطية راسخة أوصلته الى الحكم عبر صناديق الاقتراع، وانجازات اقتصادية غير مسبوقة وضعت تركيا في المرتبة السابعة عشرة على قائمة الدول العشرين الاقوى اقتصادياً على مستوى العالم بأسره.
لا نعتقد ان السيد اردوغان سيقف موقف المتفرج امام هذه الحملات، فقد اجبر اسرائيل على الاعتذار رسمياً له، وفي غضون ساعات محدودة، عندما هددها بعواقب وخيمة اذا لم تقدم هذا الاعتذار مساء اليوم نفسه الذي اهانت فيه السفير التركي في تل ابيب، عندما استدعته للاحتجاج على تصريحات رئيسه المطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة واتهامه لاسرائيل بممارسة ابشع انواع الابادة ضد الشعب الفلسطيني الاعزل بتجويعه حتى الموت. كما انه لم يتورع مطلقاً عن التصدي لشمعون بيريس رئيس اسرائيل عندما مارس كعادته الكذب والتضليل حول عدوان غزة بإلقاء اللوم على الفلسطينيين، ومغادرته القاعة مرفوع الرأس احتجاجاً.
نتمنى ان لا يكتفي السيد اردوغان بسحب سفير بلاده من واشنطن احتجاجاً على القرار المذكور، وان يرد بتذكير العالم بأسره بجرائم الابادة الجماعية التي ارتكبها المستوطنون الامريكان البيض في حق الهنود الحمر اهل البلاد الاصليين، او ان يتحدث عن المجزرتين الكبريين اللتين ارتكبتهما امريكا الديمقراطية زعيمة العالم الحر عندما قصفت مدينتي هيروشيما ونغازاكي بالقنابل الذرية وبعد انتهاء الحرب تقريباً لمصلحة الحلفاء. واذا كان المثلان السابقان يعتبران من التاريخ البعيد، فلا بأس من الاشارة الى ابادة الامريكان لمليوني عراقي نصفهم تحت حصار ظالم ونصفهم الآخر بسبب الغزو والاحتلال، ناهيك عن ملايين الارامل والايتام والمهجرين، والقائمة تطول.
' ' '
جميع جرائم الابادة والتطهير العرقي مدانة بالمطلق، اياً كان ضحاياها، واياً كانت ديانة او هوية مرتكبيها، لكن ما نختلف عليه هو الطريقة الانتقائية في التعاطي معها، وطرق استخدامها كأوراق ضغط وابتزاز، خاصة من العالم الغربي والحليف الاسرائيلي. فالامريكان والاسرائيليون هم آخر من يحق لهم القاء محاضرات علينا وعلى العالم حول جرائم الابادة الجماعية، فبيوتهم من زجاج هش، ان لم تكن بدون زجاج على الاطلاق.
حملات التحريض على تركيا ستستمر في الأشهر ولا نشك في ذلك مطلقاً، ولكن ما يطمئننا انها قد تعطي نتائج عكسية تماماً، لانها ستوحد الشعب التركي في معظمه خلف الحكومة الحالية، وستكشف مدى العقوق ونكران الجميل اللذين تواجه بهما بلاده من قبل الحلفاء خاصة عندما يتعلق الامر باسرائيل، فرغم الخدمات الجليلة التي قدمتها تركيا على مدى ستين عاماً كعضو في حلف الناتو، ووقوفها في الخندق الامريكي في مواجهة الكتلة الاشتراكية، والمشاركة في معظم الحروب، ان لم يكن كلها، ها هي هذه الخدمات توضع جانباً فور اتخاذ تركيا موقفاً اخلاقياً يحتم عليها كدولة مسلمة ان تنتصر للضعفاء من ابناء عقيدتها، وترفض عمليات تهويد المقدسات الاسلامية في القدس المحتلة ومدينة الخليل وغيرهما.
الشعب التركي لا يمكن ان ينسى كيف خذله الاوروبيون ورفضوا انضمام بلاده الى الاتحاد الاوروبي رغم تجاوبه مع كل الشروط المطلوبة للعضوية، وبعضها يتناقض مع دينه الاسلامي وشريعته، بينما فتحت الابواب على مصراعيها امام الاعضاء السابقين في حلف وارسو، ولا بد انه سيجد من الصعب عليه هضم هذه المواقف الامريكية المدعومة اسرائيلياً ضده.
اردوغان حفيد العثمانيين تحوّل الى رمز للرجولة والعدالة في بلاده والعالم الاسلامي بأسره، ولا نستغرب اذا ما غيّر تاريخ المنطقة، مثلما غيّر تاريخ تركيا، وخلّصها من سيطرة العسكر، وفضح العنصرية الاوروبية، وانهى تحالف بلاده المعيب مع دولة تهوّد المقدسات، وتقوّض المسجد الاقصى لاقامه هيكل سليمان المزعوم مكانه.
|
|
|