18/08/2010 |
في المجال السياسي وبالذات في شقّيه الحقوقي والتشريعي، بيت الداء العربي المزمن، يتساءل المرء لماذا لا نملك متخصصين بما يقتضيه التخصص من وعي وعزم وهمة، وانتماء إلى حظيرة علمية، وانخراط ونزاهة وصلاح ذمة؟ لماذا نفتقر إلى متخصصين في العلوم السياسية والدراسات الاجتماعية والقانونية والتشريعية، قادرين على تكوين مجتمعات علمية ذات قيمة ومكانة يستطيعون من خلالها تصور وفرض وإنجاح المشاريع العلمية والثقافية والحضارية، لقيادة المجتمعات العربية إلى نهضة تأخرت كثيرا ولا مؤشر على قيامها في القريب المنظور؟ مع أن بإمكان هؤلاء العلماء والمتخصصين، متى سمح لهم بالوجود والبروز ومنحت لهم حرية وإمكانات التطور، والارتقاء بتصور وصياغة وقيادة المشاريع الإنمائية والحضارية، بإمكانهم أن يُخرِجوا الدول العربية من حالات الانهيار أو الركود السياسي والفوضى التشريعية والدستورية، وأن يدفعوا كمجتمع علمي قوي ومتماسك إن وُجِد، في اتجاه إصلاح الأنظمة القائمة، بعد إصلاح المنظومة العلمية واستعادة مكانة العلم والعلماء طبعا. ولنا مثال صارخ بالمجال السياسي الإعلامي في تكاثر 'المتخصصين' في شؤون الحركات الإسلامية، بحيث صار عددهم يفوق بأَضعافٍ أعداد الفضائيات المتخصصة أو المتجنية بدورها على التخصص، فما كدنا نستفيق من الذهول الذي سببته لنا افتتاحية إحدى صحف المهجر حول مسؤولية تنظيم القاعدة جملة وتفصيلا عن كل ما يجري بالعراق و'التبييض' المفضوح الذي قامت به تلك الافتتاحية ومثيلاتها لذمة الاحتلال الأمريكي الغربي والمتعاونين معه وكذلك ذمة دول الجوار (انظر مقالا للكاتب في الموضوع في القدس العربي عدد 6498 في 30/04/2010)، حتى فاجأنا متخصص آخر في شؤون الحركات الإسلامية بالذات، مغربي هذه المرة، مع كامل تحفظي على مصطلح 'التخصص' غير الميداني الذي كثيرا ما تصف به بعض المنابر الإعلامية متحدثيها ومدعويها، وكأن التخصص في شؤون تلك الجماعات هو آخر ما ينقصنا من تخصصات لنتقدم ونتطور ونبلغ مصاف الدول والشعوب الأرقى، أو كأنه تخصص حقيقي ونافع ومستوف لشروط التخصص، بينما هو لا يعدو أن يكون تخصصا عن بعد، وليس من رآى كمن سمع وقد قيل قديما 'شرّ البليّة تمَشْيُخُ الصُّحُفِيّة' أي ادّعاء التخصّص من لدن من اقتصر اطلاعه على الكتب ولم يخبر الميدان وتفاصيل وأبعاد المشكل وتعقيداته، فاجأنا ذلك الباحث بدرجة وثوقيته في استعمال مصطلحات بعينها ما زالت مثار جدل جهوي ودولي كمصطلح 'الحركات المتطرفة'، الذي أطلقه على عموم الحركات االإسلامية من دون تمييز بين المقاومة منها أو السرية أو المحظورة أو المنخرطة في العمل السياسي بشكل رسمي، ومصطلح الإرهاب الذي وصم به في تعميم غريب كل الحركات الإسلامية، وطفق يستعمل مصطلح 'الحركات المتطرفة' على طول مقاله المتمحور حول استعمال المتطرفين شبكة الإنترنت، قاصدا بالمتطرفين 'كل المجموعات المصنفة إرهابية من لدن الولايات المتحدة الأمريكية'، كل هذه التسميات المجانبة للواقع كان بإمكانه تفاديها لو اكتسب موضوعية المتخصص فعلا، فالمصطلحات 'على قفا مين يشيل' وهناك مثلا مصطلحات أكثر موضوعية للتمييز بين الحركات وتفادي التعميم المتحامل، كمصطلحات: الحركات المتمردة والحركات السرية وحتى الحركات المعارضة أو الحركات المقاومة، وقد أتى هذا الاستعمال غير السليم للمصطلحات رغم تأكيد الباحث في بداية مقاله 'هلامية عبارة التطرف ذاتها وعبارة الإرهاب أيضا'، ولم يستثن حركات إسلامية كحركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله والحركات المحظورة كحركة الإخوان المسلمين وجبهة الإنقاذ والعدل والإحسان وغيرها، كما استعمل الباحث عبارات أخرى قصد بها التعميم على كل الحركات، عبارات مثل 'التنسيق للعمل الإرهابي' و'أطروحة الجهاد والعنف هو السبيل الأنجع لبلوغ الأهداف وإدراك الشهادة' إذ نلاحظ ربط الجهاد بالعنف في حشو واضح ما دام الجهاد قتالا وينبغي أن يكون عنيفا، كما نلاحظ تبخيس المقاومة والحط من مكانة الجهاد، من واجبٍ وفريضة إلى مجرّد أطروحة. يعود الأمر هنا مرة أخرى إذا استثنينا ليَّ عنق الحقائق خدمة للقبضة الأمنية وعلى هوى الأنظمة، يعود الأمر في تفشي فوضى 'الإفتاء السياسي والأمني' إلى انعدام التخصص العلمي، الفعلي والموضوعي والمؤطَّر في مجتمعات علمية محلّية ومراكزِ بحثٍ ودراسات، ليس لأننا لا نستطيع، فلدينا نحن العربَ ما يقارب المئتي جامعةٍ ومعهدٍ وما يفوق الألف مركز دراسات وبحث علمي، بل لأن أنظمتنا بطبيعتها لا تريد تفعيل تلك المؤسسات ولا تملك مقومات إرساء وإدارة مشاريع سياسية وحضارية على أسس علمية حقيقية، فهي أنظمة 'هلوعة'، من العلم والعلماء والمنورين 'جزوعة'، يشكِّل الهاجسُ الأمني لديها أولويةَ الأولوياتِ، لأنها في معظمها لا تخرج في نظري عن أصناف ثلاثة: 1. أنظمة انهارت ولم تقم لنظامٍ بعدها قائمة في البلد، ولم يَخلُفها إلا التشرذم والانفصال كما في الصومال، أو الطائفية والشقاق كما في العراق. 2. أنظمة عسكرية أو منصّبة من العسكر، لم تقم أبدا كأنظمة مدنية شرعية، تجعل من سلطة الرئاسة المهيمنة على باقي السلطات، ستارا للوبيات سياسية أو طائفية أو لوبيات مصالح اقتصادية ومالية تتخذ النظام برمته مطيّة ونوعاً من حصانِ طروادة لتعطيل أي مخاض سياسي أو حقوقي أو تشريعي أو علمي وفكري حقيقي، يُنذر بانقلاب في الرؤى والتصورات، ويعجل بتغييرٍ لا ترغب فيه تلك الأنظمة وهي التي تثلث وتربّع وتُؤبّد الولايات الرئاسية وتُنصِّب وتورِّث بالذات لتتفادى ذلك التغيير 'البعبع'. 3. أنظمة ريع ورعايا، بدّدت وما زالت ثروات شعوبها المكدّسة بصناديقَ تُنسَب إلى السّيادة والأصحُّ نِسبتها إلى التسيُّد والأسياد، أسياد القرار والمال والمصير والمآل، أنظمة أفضَت ببلدانها إلى سوء توزيع الثروة وتبديدها واختلال التوازن السكاني وخلخلة التركيبة الطائفية، ناهيك عن مشاكل 'البدون' جنسية، ومعضلة ارتهان سياساتها وقراراتها للوجود الأجنبي بقواعد عسكرية أزلية. كان هذا تصنيفا شخصيا للأنظمة العربية اعتمادا على خصائصها ونواقصها المشتركة، ولمن يرغب في تصنيف أكثرَ تخصُّصاً أن يعود إلى التقرير السنوي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان الصادر مؤخرا (انظر ملخصا عنه بالقدس العربي ليوم 28/07/2010)، تقرير صنف الدول العربية إلى دول تعاني على مستوى تقرير المصير كالعراق وفلسطين، وأخرى تعاني على مستوى السلم الأهلي ووحدة التراب الوطني كالسودان والصومال واليمن، ودول كثيرة أخرى متعثرة على مستوى الإصلاح والانتقال الديمقراطي وعلى مستوى 'خيارات التنمية والسياسات الاجتماعية والتعاون الاقتصادي العربي بين أزمتين عالميتين، عصفت أولاهما بنصف أموال الصناديق السيادية العربية، وتتجمع نذر أخراهما في آفاق الاقتصاد العالمي'. هي إذن صورة قاتمة ترسمها المنظمة العربية لحقوق الإنسان في تقريرها السنوي الرابع والعشرين، صورة تفسر إلى حد بعيد هزالة التخصص العلمي وقلة الاهتمام بالبحث والباحثين والدراسات والدارسين من قِبل الأنظمة العربية. وعودة إلى أسباب تهميش التخصص والبحث العلمي وتحجيم مكانة وأدوار العلماء والباحثين والمتخصصين، كنت قد خمنت أن أسباب ضعف المستوى في هذه المجالات يمكن أن تتراوح بين ندرة التخصصات العلمية وكذلك نفور الطلبة والأسر العربية عموما من التخصص في مجالات اقترنت في المخيال الجمعي بالاختطافات والزنازن والتعذيب والجريمة السياسية وكل المآسي التي كانت وما زالت تنجم عن الخوض في المجالات السياسية أو الحقوقية أو التشريعية بالمنطقة العربية، إضافة إلى تعطيل أو منعِ الأنظمةِ البحثَ في مجالاتٍ تعتبرها مجلبة لوعيٍ 'شقيٍّ' لا يخدم البتةَ مصالح المستبدين بالسلطة والمتمسكين بها. غير أن تخميناتي لم تكن دقيقة ولا شاملة دقة وشمولية الأسباب التي ساقها البروفيسور المصري الأصل رشدي راشد الذي يشغل منصب مدير الدراسات بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي، والحائز أشهر الجوائز والميداليات العلمية بالدول المتقدمة، والذي استضافته قناة الجزيرة في برنامج 'بلا حدود' لأحمد منصور. يُجمِل البروفيسور راشد 'العوائق التي تقف في وجه العلماء والباحثين العرب في العوائق الايديولوجية التي تضعها الأنظمة في طريقهم، والتدهور المقصود لوضعهم الاجتماعي وأحوالهم المادية والتقليص المتعمد لإمكانات تمويل دراساتهم وأبحاثهم، ومعاملتهم كرعايا لا كمواطنين، وغياب مشروع حضاري نهضوي، وانعدام سياسة علمية، وعدم تبلور مجتمع علمي قوي ومتماسك، والأهم من هذا وذاك حسب البروفيسور راشد عدم اعتماد اللغة العربية في تدريس العلوم وفي الدراسات الجامعية، إذ لاحظ محقّا أن دولا كاليابان والصين وألمانيا وغيرها لم تكن لِتنهَضَ لولا استعمالها اللغة الوطنية إلا فيما ندر أو فيما تعذر. فهل من مُصغٍ إلى أمثال هؤلاء المتخصصين 'بصح وصحيح'؟ أم أننا سنكتفي بالتحليلات الهامشية والدعائية لمرتزقة الإفتاء السياسوي ومروجي طروحات الاستئصال، المتخفين وراء مزاعم محاربة الإرهاب؟ عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية برئاسة تحرير عبد الباري عطوان. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق