الاثنين، 19 يوليو 2010

المصدر : القدس العربي
لمنْ تُقرَع الطُّبولُ حول الصومال؟
10/02/2010
منذ أن أحكم الغرب قبضته على المجال البحري للصومال و تقلّصت بشكل ملحوظ عملياتُ 'القرصنة'، عادت الأزمة الصومالية إلى العتمة حيث مكانها الطبيعي منذ عقود حين لا تمتد تبعاتها خارج حدود هذا البلد المقسّم والمُنْهك، هذا البلد الذي ينسى الجميع أنه بلد عربي في زمن نسيان العروبة حتى في حضن أم العروبة. هكذا هم الغربيون، الذين أعني بهم أنظمة الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي وأستراليا وصنيعاتهم ومن يدور في فلكهم من أنظمة (حتى لا يلتبس الأمر على من يفردون مقالات بأكملها لإثبات 'هلامية' مصطلح 'الغرب' وخطأ نظرية المؤامرة)، هكذا هم، لا يتعاملون مع الأزمات ولا يُذْكونها أو يُخْمِدونها إلا بقدر ما يجنونه منها من مكاسب أو بقدر ما يريدون تجنُّبَه من مخاطرِها وتبعاتِها.
في الأيام الأخيرة تذكّر الغرب الصومال من جديد، بعد استراحة قصيرة الحق أنها 'مستحقة'، هكذا دأب الغرب على التعامل مع الأزمة الصومالية المزمنة، ما إِنْ تستعصِ عليه، وهي على كل حال دائمة الاستعصاء، حتى يعمد إلى نسيانها لفترة قبل أن يتذكّرها فجأة وعلى حين غرة، وكأنه متلهف بعد استجماع قواه، للعودة إلى لعبة أدمن عليها. هذه المرة أيضا كان لابد من جوقة إعلامية تمهد لإثارة الأزمة الصومالية في المحافل وتسليط الأضواء عليها لدى الرأي العام العالمي سهلِ الانقيادِ، فانبرتِ العديدُ من وسائل الإعلام الغربية وتقدمت موكب دق الطبول منها: فرنس برس ورويترز والأوبسيرفر التي تصدرها 'الغارديان' وربما غيرها كثير، فالأوبسيرفر البريطانية كرَّسَتْ طُبولها لمحنة اللاجئين الصوماليين الفارّين من 'بطش' الشباب المجاهدين، وذلك في تقرير كتبه في31/1/2010 بيتر بومنت عن منظمة الأوكسفام، وهي لمن لا يعرفها ائتلاف من 14 منظمة 'إنسانية' ضد الفقر والظلم، تأسست في 1995 وتخصّصت منذ ذلك الحين في إثارة الضّوضاء حول 'بؤس ولاجئي ومجاعة وإرهاب' كل منطقة ينوي السياسيون في الغرب حشر أنوفهم فيها. وأحمت وكالة فرنس برس طبولها وناغمتها مع صوت التراشق المدفعي بالصومال والإثنتي عشرة ضحية بالتمام والكمال.
أما وكالة رويترز فقرعت طبول الدعاية دونما حاجة إلى قرع أبواب جيران الصومال، فقد أبلغوها وأبلغوا العالم من حولهم، في بيانهم الصادر باسم منظمة 'الإيغاد' التي تضم دول الشرق الإفريقي بما فيها الصومال، أنْ لا هَمَّ لديهم في ظلِّ أمنهم ورخاء شعوبهم وبحبوحة عيشِهم، سوى ما يجري في الصومال وتأثيره على 'بونتلاند' و'صوماليلند' وحتى على اليمن! (قريبا سيقولون أن مجاهدي الصومال هم من تسببوا في الأزمة الأمريكية الصينية المتسارعة!).
ولم تنسَ 'رويترز' إقحام رأيِ ما أسْمَتْه 'أجهزة أمنية غربية' وهو طبعاً رأي يؤكد أن 'البلاد باتت ملاذا آمنا للمتشددين الإسلاميين بمن فيهم 'الجهاديون' الأجانب الذين يستخدمونها للتخطيط لهجمات في أنحاء المنطقة وما وراءها'.
نعم..نعم، مفهوم.. الجهاديون يجاهدون فقط لأجل الجهاد، فهو هوايتهم أو إن شِئتم لعبتهم المفضلة! نعم كل هذا مفهوم..إنهم يهدّدون المنطقة وما وراءها ويفجّرون الأحذية والملابــس الداخليــــة بالطائــــرات، وربــما يفجّــــرون قريبا الجـــوارب والمِشَدَّات، كل هذا معلوم..إنها قصة الجهاديين مع الملابس والتي لا تقل عنها غرابةً قصةُ الغرب مع الملابس، وملابس العرب والمسلمين بالتحديد، فالغرب يقود حملة متصاعدة ضدها، بدأ بنزع النقاب ثم الحجاب إلى أن وصل إلى نزعها كلها بمطاراته. كل هذا معلوم كما هو معلوم منذ عقود أن الصومال دولة فاشلة ، وأن الغرب لاقى فيها هزائم سياسية وحتى عسكرية ما زالت عالقة في الأذهان، ولعل في تحسُّر بيتر بومنت بالأوبسيرفر على مآل نصب تذكاري أقيم بمنطقة 'أرض الصومال' في 1953 خِصِّيصاً لزيارة لم تتم آنذاك لملكة بريطانيا،(لعل في تحسره) تعبيرا صادقا عن الحنين البريطاني والغربي عموما إلى الماضي الكولونيالي حين كانت السيطرة على الأوطان وإخضاع الشعوب أمورا يسيرة كشربة ماء.
فما سرُّ هذه الهبَّة الإعلامية حول الصومال والتي ستتلوها لا محالة تحركات سياسية من نفس المستوى وفي كل الاتجاهات؟ ولماذا تذكّر الغرب الصومال هذه المرّة؟ وهل يدخل ذلك ضمن تحضير المنطقة، كل المنطقة، لحرب محتملة مع إيران يعي الغرب أنها ستشملها برُمَّتها إذا اندلعت؟
عبد اللطيف البوزيدي كاتب من المغرب-القدس العربي اللندنية

بريطانيا: بين وَهْمِ 'لويس' وهَمِّ 'غالاوي'
29/01/2010
نجح الصهاينة بعد نصف قرن من تأسيس حركتهم العنصرية في إقناع حكومة بلفور، ومن خلالها بريطانيا التي كانت قد فقدت منذ تلك الفترة وليس اليوم فقط الكثير من بريق لقب 'العظمى'،(نجحوا في إقناعها) بمنحهم موطئ قدم في منطقةٍ عَرَفوا بدهائهم أنها مركز العالم ماضيا ومستقبلا من حيث الجغرافيا والإثنولوجيا والحضارة والموارد، نجح إذن من لا يملك في تمليك من لا يستحق، على حساب شعبٍ بأكمله، بقبائلِه وشرائحِه وعوائلِه، ووطنٍ بقُراهُ ورُباهُ وخمائلِه.
واختلفت منذ ذلك الحين ذرائع بريطانيا باختلاف المُخاطَب، فبالنسبة للعرب وباقي ضعفاء العالم فهي قد سلّمت فلسطين إلى الصهاينة لأنها كانت أرضَهم وأرض ميعادهم واضطرّوا إلى مغادرتها منذ سنوات 'ضوئية' فقط! وكأنها بذلك تقول إنّ فلسطينَ أقدمُ سِلعة في العالم تحمل ميزة 'علامة مسجلة'.وبالنسبة للغرب 'المتحضِّر والمتعقِّل والمتفهِّم' كانت وما زالت ذريعةُ بريطانيا في تسليم فلسطين المغتَصَبة إلى الصهاينة هي أنها تعوِّضهم عما يُزعَم أنّ هتلر والنازيين كانوا قد أذاقوهم لِتَوِّهِم خلال الحرب العالمية الثانية من صنوف التنكيل والتشريد، ولو صحَّ زعْم 'المحرقة' بطُل العجب من تخصّص الصهاينة في التنكيل بالعُزَّل وتشريدهم والرّجم الفضائي الغادر دون باقي تخصصات المحاربين الحقيقيين (راجع مقال 'الاستراتيجية الحربية الجديدة لإسرائيل' للكاتبة الفلسطينية رنا حداد بـ'القدس العربي' عدد6408 في 15/1/201).
أما الهدف الرئيسي من المؤامرة البريطانية التي جعلت من الصهاينة رأس حربتها فلم يكن قطعا إحقاق 'حق اليهود'ولا تعويضهم عن جرائم النازيين، وإنما كان الهدف الرئيسي زرع كيان طفيلي في خاصرة المنطقة العربية، يُمكّن بريطانيا وحلفاءَها الغربيين من رعاية أطماعهم في مقدّراتها، بعد أن خرجوا من الحرب العالمية الثانية مُنْهكي الاقتصاديات ولم يعد ممكنا بالتالي الحفاظ على المستعمرات وبالأخص مع تنامي حركات المقاومة بها، إنه هدف إمبريالي وانتهازي مقيت لم يعد خافيا إلاّ على من يصدِّقون أمثال السيد آيفن لويس وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط ومقاله المنشور بـ 'القدس العربي' عدد 6407 في 14/1/2010 الذي يُلْبِسُ بريطانيا من خلاله قميص الفضيلة والإنسانية الذي لا يَسَعُها ولم يَسَعْها أبدا وبالأخص خلال ماضيها الكولونيالي، مصدر فخرها المعلن قديما والمُنتشى به سِرًّا في عصر ذريعة نشر حقوق الإنسان، ذلك الإنسان نفسه الذي كان إلى عهد قريب مستعبدا من لدنها ومن لدن شلة الدول الاستعمارية في مستوطنات الغرب التي لم تكن تغيب عنها الشمس، بل ذلك الإنسان عينُه الذي تَذَكَّر الغربُ فجأة أن له حقوقا حتى ليُخيَّل إلى المرء أنه غربٌ آخرُ غيرُ الذي عرفتِ البشريةُ ماضيهِ (وحاضرَه) وضلوعَه في نهب مقدرات الشعوب بأساليبَ تتنوع وتستجِدُّ على الدوام.
فهل يظن السيد آيفن لويس أن هناك من سيصدق أن بضع عشرات الملايين موزّعة على سنوات،هي التي ستُنَمِّي بلدا آهلا وممتدا وعلى حافة الإفلاس وتدعم استقراره؟ أم أن مبالغ تافهة كهذه تكفي بالكاد لإطالة أمد الصراعات الدامية وتأخير الحل بتمويل القمع الذي تمارسه أنظمة يعلم الغرب قبل غيره أنها مستبدة وفاقدة الشرعية؟ أليست لحكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا ولسكان غزة المنكَّل بهم والمجوَّعين المحاصَرين المشرّدين الأولوية في مساعدة الغرب 'المتحضّر السخيّ المحسن'، الذي لا يتوانى عن المساعدة على 'تنمية دولة ديمقراطية قادرة على معالجة أسباب الصراع وعدم الاستقرار'؟ أم أن فك الحصار ومساعدة الفلسطينيين،الذي يقوم به مواطن السيد لويس'الشريف غالاوي' المنبوذ في الغرب، يعدّ 'لعِباً'من بريطانيا في منطقة صنيعتها إسرائيل الخارجة عن السيطرة،لا بل والتي صارت هي المُسيطرة بعد أن صارت تغير قوانين صانعيها في عقر ديارهم؟ ولديّ من الأسئلة الكثير للسيد لويس فقد قيل : فلو أنّي كنتُ أميرَ جيشٍ لَما قاتلتُ إلا بالسؤالِ: فإني رأيت الناس يفرّون منه.. وقد ثَبَتوا لِأطراف العَوالي (السّيوف).فهل سيثبت السيد لويس أمام هذه الأسئلة؟ وهل لديه إجابات واضحةٌ غير َ المنّ بجنيهاته، عن أسباب حشر الغرب وبريطانيا أُنوفهم هنا وهناك عبر العالم؟ وهل باستطاعته أن يفنّد قناعة الكثير بأن إسرائيل-الأداة لم تعد كذلك، بل وصارت تسعى لقلب السِّحر على الساحر بالسيطرة على الغرب المخترَق من لدنها؟
عبد اللطيف البوزيدي-كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية
المصدر : القدس العر بي
عروبة مصر منهم تترنح
18/01/2010

منذ توقيعه اتفاقيته المشؤومة التي كانت وَبَالاً على الشعب المصري وعلى الأمة العربية جمعاء، ما فتئ النظام المصري يحاول بشتى الوسائل إبعاد مصر عن محيطها العربي وإلحاقها بالمعسكر الأمريكي - الأوروبي أي 'محيط إسرائيل'، مقدما في سبيل ذلك خدمات و تنازلات لا حصر لها، منها على الأخص:
1. قبول النظام بالسيادة الناقصة على سيناء وحرية ولوج وتنقل الإسرائيليين، مما وفر على إسرائيل عناء ومصاريف احتلال سيناء دون حرمان رعاياها من الاستجمام بمنتجعاتها تحت حماية جنود مصريين محدودي التسلح.
2. تحويله مصر من طرف رئيسي في النزاع العربي الإسرائيلي إلى مجرد وسيط 'ضاغط ومستعجِل جدا' بين الفلسطينيين.
3. تشديد النظام الحصار على فلسطينيي غزة بإغلاق معبر رفح أثناء العدوان وبعده، واستجابته لأمريكا في بناء جدار 'حديدي من فضلكم!' لتجويع الفلسطينيين كما جوَّعت أمريكا المصريين بعد 'النكسة' بمنع القمح عنهم.
ولم يقف النظام المصري ولن يقف على الأرجح عند حد عزل مصر عن محيطها العربي، فهو يسعى اليوم إلى تجريدها تماما من هويتها العربية، وبدأت تظهر بالفعل بعض 'أعراض' التنكر للعروبة والانسلاخ منها، فقد تذكّر أعضاء 'الكتيبة القلمية للنظام' من كتاب وسياسيين وصحفيين مصريين فجأة أصولهم الفرعونية وطفقوا يذكِّرون القوم بها، مستغلين فقر وجهل شرائح كبيرة من الشعب وموهِمين إياهم أن تدهور أحوال المصريين البسطاء كان سببه 'إقحام' مصر في الصراع العربي الإسرائيلي، وكأن العرب أو الفلسطينيين خصوصا هم من هاجموا مصر مرارا واحتلوا أرضها وأحرقوا طيرانها وهو جاثم وأعدموا آلاف الجنود الأسرى!
لقد نجح النظام في إقناع الشعب المصري بأن العرب والعروبة هما سبب تخلّفه وانحطاط قدر مصر بين الأمم، ومرت ثلاثة عقود منذ أن أدار ظهره للعرب ولم نسمع عن تغير أحوال الشعب المصري إلا إلى الأسوإ، ولا حاجة إلى ذكر التفاصيل فالمشهد مأساوي ويدمي القلب ويجعل من كره المصريين أمرا مستحيلا ما داموا مغلوبين على أمرهم ،فليطمئن من تساءلوا: 'لماذا يكرهوننا؟' فلا كراهية لمثير للشفقة. اليوم وقد صار صعبا إبقاء المصريين على قناعتهم تلك، بدأ النظام يبتدع أساليب مباشرة للتحريض ضد العرب والتنكر للعروبة ومنها على سبيل المثال:
1. شن حملات إعلامية ضد الخليجيين كلما استغنوا عن بعض من العمالة المصرية أو طبقوا قوانينهم المحلية على المخالفين من المصريين.
2. استغلال موقعة أم درمان الكروية ضد الجزائر بعد افتعال اعتداء ومواجهة القاهرة، لإذكاء العداء لكل مَنْ إلى العروبة ينتسب، وللنيل من السودانيين والحط من قدر الثورة الجزائرية المشرفة تبخيسا لمقاومة العرب وتضحيات شعوبهم.
3. حشر الفلسطينيين في الزاوية بالمشاركة في حصارهم والتحريض ضدهم باستغلال غضبهم المشروع على إغلاق معبر رفح، وحنقهم جرّاء بناء النظام المصري جدار المهانة، بدل بناء بيوت للمشردين بغزة أو على الأقل بمصر.
عبد اللطيف البوزيدي-كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية

نحو ديمقراطية تناسبية بالوطن العربي
15/01/2010

تتأرجح أنظمة العالم الثالث وضمنها الأنظمة العربية، حين لا تبتلى بالدكتاتورية الصريحة أو المقنعة كقدر محتوم، بين نماذج ديمقراطية متباينة من حيث الآليات، فمن ديمقراطية نسبية تتخذ نسب الأصوات معيارا أساسيا للتمثيل السياسي، إلى ديمقراطية معيارية عتيقة ترجح معايير غير موضوعية كالحسب أو الانتماء إلى القبيلة أو الطائفة أو المذهب، وقد تهتدي في أحسن الأحوال إلى ديمقراطية توافقية ترسي الركود وتبطئ التقدم بتعقيد آليات اتخاذ القرار سعيا إلى تحقيق الاستقرار بتوسيع قاعدة المشاركين في السلطة.
والواقع إن سلبيات النماذج الديمقراطية المذكورة متعددة رغم أنها نماذج 'لأسلوب حكم واحد هو الأحسن الموجود لحد الآن فيما إذا طبق تطبيقا سليما وكانت الآليات الديمقراطية والانتخابية تعمل في ظروف جيدة'، سلبيات لم تسلم منها حتى أعرق الديمقراطيات بالدول المتقدمة، 'فما يحدث من اضطرابات واعتصامات ومظاهرات في المجتمعات العريقة في الديمقراطية، هو نتيجة لما يعتري تلك الديمقراطية من نقص'.
ورغم أن الديمقراطية تنبني من بين ما تنبني عليه على 'المساواة' بمفهومها الفلسفي الذي يوحي بالعدالة الاجتماعية وبالتوزيع العادل للثروة، فإنها تبقى لدى العرب بعيدة كثيرا، مهما اختلفت نظم الحكم وتباينت الآليات الانتخابية وأنماط الاقتراع، عن تحقيق العدالة التي من أجلها تقوم الأنظمة وتتولى مصائر الشعوب، فتحقيق 'المساواة' المطلقة على أرض الواقع غالبا ما يكون صعبا ومعقدا إن لم يكن مستحيلا، وهناك من يبلغ حد اعتبار 'المساواة فكرة خيالية ليست موجودة في الواقع المحسوس، فهي تفشل بمجرد أن يحاول المرء تحويلها إلى فكرة عملية لأنها مناقضة لطبيعة الكون'. ويمكن أن نستدل بأمثلة بسيطة على صعوبة تحقيق المساواة المطلقة أحيانا واستحالة ذلك أحيانا أخرى، فلا يعقل مثلا أن نساوي في كمية الغذاء بين ذوي أوزان مختلفة وإن تساووا في السن أو الطول أو المنزلة، ولا في الأجر بين ذوي ساعات عمل مختلفة وإن تساووا في الخبرة والمهارة، فلا مساواة إذن مع وجود الفارق، وما دام الفارق دائما موجودا بدليل ألا أحد يشبه أحداً في كل خصائصه وصفاته فلا مساواة يمكن أن تتحقق على مستوى الواقع بتفاصيله ودقائقه، وإنما يُكتفَى بمصطلح 'المساواة' في مستويات أقل دقة وأكثر عمومية كالحديث في المثالين السابقين عن المساواة في 'الحق في الغذاء' بدل المساواة في كمية الغذاء، والمساواة في 'الحق في الأجر' بدل المساواة في قيمة الأجر.
عطفا على ما سلف يمكن القول إن الديمقراطية في معظم دول العالم وفي الدول العربية على الخصوص لم تتجاوز بعد 'مرحلة العمومية' أو ما يمكن أن نسميه 'مرحلة التعبير عن النوايا' وأنها لم توجِد بعد الآليات العلمية والموضوعية لتتجسد على أرض الواقع بما يلزم من العدالة إن استحالت المساواة، إذ لا يمكن تصور تحقيق العدالة والاختيار السديد حين نلغي مثلا 'دور العلم والتربية والثقافة في تحديد السياسات'. فهل يمكن تصور وتأسيس نموذج ديمقراطي جديد، يحافظ على المبادئ الديمقراطية من 'مساواة' وفصل سلط وتعدد أحزاب وغيرها، لكن بآليات تطبيق جديدة، علمية وأكثر موضوعية وعدالة؟ أو بمعنىً آخر هل من سبيل إلى ابتكار آليات تتجاوز معوقات تنزيل الفكر الديمقراطي في الواقع؟ أقترح في هذا الصدد ما يمكن تسميته 'الديمقراطية التناسبية' التي أعرض في عجالة بعض ملامحها الإصلاحية، توازيا مع استعراض بعض معوقات تطبيق الديمقراطية في الوطن العربي على الخصوص: نحو تفادي ضعف مستوى السلطة التشريعية: صحيح أن فصل السلط من المبادئ الأساسية للديمقراطية، لكن إذا كانت ممارسة السلطتين التنفيذية والقضائية قد حُصِرت في ذوي الاختصاص من إداريين وسياسيين وخبراء، فإن السلطة التشريعية تُرِكت على عواهنها في جميع الأنظمة المسمّاة ديمقراطية في الوطن العربي، وعُهِد أمرُها في الغالب إلى أميين وأنصاف مثقفين وعديمي إحساس بالمسؤولية، أفرزتهم الآليات غير الموضوعية للديمقراطيات القائمة، سواء كانت نسبية أو معيارية أوتوافقية، في إلغاءٍ سافرٍ لدور الثقافة والمعرفة في تحديد السياسات (راجع مقال د. يوسف نور عوض - 'القدس العربي' عدد6396/ص19)، بدعوى ترك الاختيار للشعب، في حين أن مصلحة الشعب تكمن قبل كل شيء في منع بعض الجهلة والأميين والوصوليين من العبث في مجال حساس كالمجال التشريعي الذي يرهن مستقبله لعقود. ويكمن الخطأ هنا في 'المساواة' حين الاقتراع، فكيف يعقل أن نساوي، في عملية دقيقة وخطيرة كعملية اختيار أصحاب القرار التشريعي والتنفيذي، بين صوت الأمي الذي لم ينل حظه من المعرفة وصوت صاحب دكتوراه في العلوم السياسية مثلا؟
وهل كل المواطنين يملكون النضج والتجربة والمعرفة الكافية ليصيروا أصحاب قرار أو ليحسنوا على الأقل اختيار أصحاب القرار؟ يجب إذن قبل الاقتراع إيجاد طريقة ما، كنظام تنقيط محكم مثلا، لترجيح أصوات المواطنين الذين استوفوا معايير معينة كالنضج (باعتبار السن) والمعرفة والثقافة (باعتبار المستوى التعليمي) والقدرة على تحمل المسؤولية (باعتبار الوضعية العائلية والمهنية). لن نلزم كل المواطنين بأن يصيروا خبراء في السياسة أوالتشريع لكنها ضرورات الموضوعية والمنهج العلمي في التفكير كما قال رمضان لاوند للدكتور يوسف عوض: 'لا أريد من كل المثقفين أن يصيروا فلاسفة، لكن على كل من يتصدى لقضايا الفكر أن ينهج نهج الفلاسفة، أما رأيت أفلاطون يجعل منهم أساس جمهوريته؟'.
نحو إعادة العلماء والمثقفين إلى الأحزاب: الحزب السياسي هو خلية الديمقراطية وقلبها النابض، وهو 'آلة الديمقراطية التي تتم عن طريقها المشاركة الفكرية والسياسية والمنافسة بين الاختيارات المطروحة، وتدريب الكوادر السياسية وتصعيد القيادات والتنافس بينها أمام القواعد الحزبية والرأي العام'.
لكن الأحزاب العربية والعالمثالثية تشذُّ في معظمها عن هذا التعريف الذي أورده د. الصادق المهدي في مقاله 'البندول الحزين'، فهي تتخبط في مشاكل لا حصر لها تفوق أحيانا مشاكل الأنظمة نفسها.ومن أخطر مشاكلها عزوف النخب الثقافية والعلمية عنها، 'فكثير من حملة الشهادات والمؤهلات الأكاديمية والمهنية في العالم الثالث يشعرون بنوع من التعالي نحو المجتمع المحيط بهم... والأحزاب ذات الوزن الشعبي مرآة للواقع الاجتماعي بولاءاته الدينية والقبلية والجهوية، فلا غرو أن يشعر كثير من أفراد الصفوة المثقفة بالتعالي على الأحزاب'. ومن ثم فإن أنسب طريقة لإعادة المثقفين والأكاديميين إلى الأحزاب هي قبل كل شيء الاعتراف لهم بالأهلية وترجيح آرائهم وتيسير تبوئهم المناصب القيادية التنفيدية والتشريعية، وهنا تكمن أهمية 'الديمقراطية التناسبية' ونظام التنقيط المضبوط المصاحب لآلية الاقتراع، والذي من شأنه إيلاؤهم مكانتهم المستحقة وتمكينهم من أداء دورهم الحقيقي.
نحو إرساء الديمقراطية التناسبية داخل الأحزاب : هناك أسباب أخرى لضعف دور الأحزاب العربية وبالتالي مساهمتها في ضعف الممارسة الديمقراطية والعجز عن إرساء مبادئها في الواقع، منها خصوصا : '- رسوخ الحسب الاجتماعي والسياسي المتمحور حول القبيلة والعشائرية أو الطريقة والكيان الديني. ظهور أحزاب عقائدية، يمينية ويسارية، تتعامل مع الواقع تعاملا جراحيا ثبت فشله في التأثير على ذلك الواقع، مما يجعلها تستبطئ الطريق الانتخابي وتسعى إلى اختصار الطريق إلى السلطة بوسائل انقلابية، مدنية باستغلال النقابات والصحف، أو بوسائل عسكرية باستغلال الضباط'. وهنا تبرز خطورة تهميش الكفاءات السياسية والأكاديمية على الديمقراطية، وتبرز بالتالي أهمية إرساء الديمقراطية الداخلية بالأحزاب، تبعا لتقييم الأصوات وفق نظام التنقيط سالف الذكر، سواء في الترشح للمناصب القيادية بالحزب أو للتصويت على قوانينه الداخلية وسياساته ومقترحاته.

عبد اللطيف البوزيدي- كاتب من المغرب-القدس العربي اللندنية

أهي حرب أخرى بالوكالة ؟

المصدر : القدس العربي
أهي حرب أخرى بالوكالة؟
2009/12/12

ركزت القوى الاستعمارية غداة تقسيم الوطن العربي على جعله تقسيما ملغوما، بالإغفال المتعمد لمعايير وضع الحدود، بما فيها المعايير الطبيعية (جبال- وديان) والاجتماعية (وحدة القبائل والمذاهب). وبذلك ضمنت حدوث نزاعات بعد تمكين كل دولة على حدة من 'استقلال' هو أشبه بتوقيع صك استسلام والتزام بالتفرقة بين أقطار الأمة الواحدة، وقد شهدنا كيف كان لتلك القوى الاستعمارية ما أرادت، فناهيك عن جملة من النزاعات القانونية حول الحدود لدول الخليج العربي فيما بينها، وبينها وبين إيران، والنزاع المؤجل بين سورية ولبنان حول مزارع شبعا، شبت حرب الرمال بين المغرب والجزائر فور استقلال هذه الأخيرة وما زالت تبعاتها قائمة، وتلتها حرب اليمنين والحرب الأهلية اللبنانية واجتياح العراق للكويت وأخيرا، ولا أظنها آخرا،حرب آل سعود على الحوثيين أو حرب الحوثيين على آل سعود، إذ لم نعد ندري من البادئ الأظلم. فمن يوقف النزيف العام في الجسد العربي، بل من يوقف بالجزيرة العربية ذلك النزيف الموضعي الذي اشتدت حدته بتوسيع الحوثيين دائرة الحرب وإحداثهم جبهة جديدة على الحدود اليمنية - السعودية؟ فإذا صحت الأنباء عن دعم إيران حاليا للحوثيين وربما لاحقا للشيعة الحجازيين، فإنها تضع النظام السعودي في مأزق هو في غنى عنه في خضم أزمة تنازع المواقع على رأس السلطة بالمملكة، خصوصا وأن التفاوض ولو السري مع إيران بات شبه محظور على دولة كالسعودية في ظل تشدد حلفائها الغربيين حيال الملف النووي الإيراني وتلويحهم بخيار الحرب.
لاأظن أن إيران تريد حربا مباشرة مع السعودية وإن كانت تمكنها من صرف أنظار 'المجتمع الدولي' عن ملفها النووي وتجعلها تستبق حرب الغرب المحتملة عليها، لكنها لن تعدم الوسائل للمزيد من دعم الحوثيين وشيعة الحجاز، في حروب بالوكالة تعودت عليها، إن لم تبادر المملكة إلى التفاوض مع الحوثيين ورد الكرة إلى ملعب النظام اليمني من جهة، وتطبيق وعود تمكين الشيعة من حقوقهم السياسية والاقتصادية، تلك الوعود التي أطلقها خادم الحرمين لدى زيارته 'التاريخية' الأخيرة للإقليم الشيعي من المملكة.
عبد اللطيف البوزيدي-القدس العربي اللندنية