مقالات مقاوِمة 2: عبد الباري عطوان//القدس العربي

  

                           للأقصى رجال يحمونه
عبد الباري عطوان
الانتفاضة الاولى بدأت لتحرير الاقصى، والثانية احتجاجا على تدنيسه، والثالثة، التي بدأت تكبر ككرة الثلج، جاءت لحمايته في مواجهات تقويضه، تمهيدا لتهويده، وفضح التواطؤ العربي، الرسمي والشعبي، المتمثل بالصمت الكامل وادارة الوجه الى الناحية الاخرى.
المرابطون في القدس المحتلة يدافعون عن مقدساتهم بأيديهم.. بحناجرهم.. بصدورهم العارية.. باعتصامهم.. بتحدي الرصاص الحي قبل المطاطي.. مرفوعو الرأس.. مستعدون للشهادة.. لا يبحثون عن اعذار.. ولا يؤمنون بالواقعية.. ولا يخشون الفارق الكبير جدا في موازين القوى.
يفضحون 'سلطة رام الله' التي تطلق قوات أمن دايتون لمنع المقاومة، بل لمنع كافة اشكال التظاهر السلمي ضد تهويد الحرم الابراهيمي ومسجد الصحابي بلال بن رباح، وتقبل بالعودة الى المفاوضات غير المباشرة في ظل الاستفزازات الاستيطانية المهينة، وتلغي احتفالا باطلاق اسم الشهيدة دلال المغربي على ميدان في مدينة البيرة تنفيذا لاملاءات اسرائيلية.
السلطة الفلسطينية منهمكة في استقبال المبعوثين الامريكيين الذين يريدون مفاوضات فلسطينية ـ اسرائيلية غير مباشرة، لتحسين الوجه الدموي العنصري لحكومة نتنياهو امام العالم، وعرب الاعتدال منهمكون في تقديم الاغراءات المالية والنفطية للصين للانضمام الى الحصار الاممي القادم ضد ايران.
المدافعون عن الاقصى يفجّرون انتفاضتهم هذه في توقيت من يستشعر الخطر على ارضه وعرضه ومقدساته، فالحكومة الاسرائيلية اعلنت عن بناء خمسين الف وحدة سكنية في القدس المحتلة، ومستوطنوها يستعدون يوم الثلاثاء القادم لاطلاق يوم عالمي من اجل بناء الهيكل الثالث على انقاض المسجد الاقصى، يقتحمون خلاله باحته، ويضعون حجر الاساس، ويقدمون قرابين الفصح العبري.
لم يعودوا يستنجدون بالحكام العرب، ولا حتى بالشعوب العربية والاسلامية، فقد ملوا من ذلك، وقرروا ان يخوضوا المواجهة لوحدهم، مسلّمين بأقدارهم، ومعتمدين على انفسهم وخالقهم.
' ' '
نحن امام تقسيم جديد للمنطقة العربية يذكرنا بنظيره الذي حدث بعد غزو القوات العراقية للكويت، فهناك نغمة جديدة يرددها بعض المسؤولين بوتيرة متصاعدة، تقول اذهبوا انتم عرب الشمال وحاربوا اسرائيل وحدكم، فهذه مشكلتكم، وخذوا من شئتم من 'المخدوعين' من اهل الاتحاد المغاربي، وفقراء اليمن والسودان، اما نحن فلنا عدونا، لنا ايراننا، ولكم اسرائيلكم.
سيدنا محمد رسول البشرية (صلى الله عليه وسلم) عندما اسرى ليلا الى المسجد الاقصى، لم يأت اليه من نابلس او غزة او دمشق، وانما من المدينة المنورة عاصمة النور والهداية، ومقر الدعوة المحمدية، والبابليون جاءوا الى القدس من ارض السواد، والايوبيون من ارض الكنانة.
لا نعطي دروسا في التاريخ، ولا نلقي المواعظ الدينية والاخلاقية، ولكننا نذكّر من يحاول ان ينسى او يتناسى، ويريد جرّنا الى حروب مدمرة في المكان الخطأ مرة اخرى، يختارها لنا الامريكيون والاسرائيليون، مثلما جرّونا الى حرب العراق تحت اكاذيب وحملات تضليل ما زالت المنطقة تعيش نتائجها الكارثية.
يرسلون الوفود الى روسيا والصين، بتعليمات امريكية، لاغرائهما بالوعود السخية بصفقات رخيصة من النفط والغاز، ومئات المليارات من الاستثمارات المستقبلية، مقابل عدم التصويت ضد قرار بفرض حصار خانق على دولة مسلمة، وكل ما سيحصل عليه هؤلاء في المقابل هو المزيد من المستوطنات والتهويد للمقدسات الاسلامية في فلسطين، التي من المفترض ان تكون مقدساتهم ايضا.
' ' '
تواطأوا في الحربين الاولى والثانية ضد العراق، ودمروا هذا البلد العربي الذي حماهم من 'التسونامي' الاسلامي القادم من الشرق، ليحصدوا الشوك، والفتنة الطائفية، واختلال التوازن العسكري والجغرافي، ونظام حكم اكثر عداء وتهديدا لهم من سابقه.
الحصار الخانق على العراق، واغراق الاسواق بالنفط الرخيص، واستفزاز القيادة العراقية في كبريائها وعرضها، دفع بها الى كارثة احتلال الكويت، وما ترتب على ذلك من نتائج معروفة ما زلنا نعيش تداعياتها، ولكن هل فكر الذين يسعون لفرض حصار خانق على ايران، وحشد القوى العالمية في وضح النهار للمشاركة فيه، بردود الفعل التي يمكن ان تترتب على خطواتهم هذه؟
ماذا لو قرر الايرانيون الانتقام من الذين يحاصرونهم بطرق ووسائل شتى، اقلها 'الارهاب' وتحريك الخلايا النائمة كخطوة اولى، يتلوها القصف وحرق الآبار والبنى التحتية كخطوة لاحقة، هل نستطيع ان نتحمل ذلك، او نوفر الحماية لمواطنينا وناطحات سحابنا وابراجنا؟
لماذا 'الواقعية' مقدسة عندما يتعلق الامر باسرائيل واسلحتها النووية الجبارة، واحتلالاتها لأرضنا وتهويدها لمقدساتنا، ولكن هذه 'الواقعية' تتبخر تماما عندما يتعلق الامر بدولة عربية او اسلامية، ونبدأ فورا بقرع طبول الحرب واشهار سيوف الحصارات؟
' ' '
في الوقت الذي يتدفق فيه الآلاف من ابناء القدس المحتلة وعرب فلسطين المحتلة عام 1948 لحماية المسجد الاقصى، نرى اكثر من 'مسجد ضرار' يبنى في عواصم عربية للترويج للتحالف مع الاسرائيليين وتوثيق عرى الصداقة معهم، باعتبارهم الانصار الجدد للعدو الآخر على الامة والمنطقة.
اهل القدس يقاومون ويستبسلون لانهم خارج حدود السلطة في رام الله، ولا يُحكمون من قبل اي نظام عربي، فهم يحاربون العدو مباشرة، وليس من خلال وكلائه العرب، وهذا هو سر جبروتهم واستعدادهم للتضحية بالارواح من اجل الحفاظ على الهوية الاسلامية العربية لمقدساتهم وارضهم.
انهم يعرّون النظام الرسمي العربي، وجامعته في القاهرة، ويفسدون الخطط لنسج التحالف العربي ـ الاسرائيلي المتنامي، ويعيدون الصراع في المنطقة الى منابته الحقيقية دون اي رتوش.
هؤلاء المجاهدون البررة، نقطة الضوء الوحيدة المشرقة في ظلام هذه الامة الحالك السواد. ودماؤهم الطاهرة التي تنزف دفاعا عن المقدسات، وحماية لها، وتمردا على الخنوع العربي والاسلامي الذليل هي الاشرف والانقى، ومبعث الفخر والكرامة والعزة. 
                                                                           نتنياهو في مصر: لا اهلا ولا سهلا
عبد الباري عطوان
من المفترض ان يلتقي الرئيس حسني مبارك رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو يوم الاثنين في مقر اقامته المفضل في منتجع شرم الشيخ على ساحل البحر الاحمر، لبحث كيفية تحريك عملية السلام، واستئناف المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي.
الرئيس مبارك رجل مريض، عائد لتوه من رحلة استشفاء في المانيا، اجرى خلالها عملية جراحية ما زالت هناك الكثير من التكهنات حول طبيعتها، ومع ذلك يصرّ الطرف الاسرائيلي على 'ابتزاز' الرجل واستغلال 'صداقته' بكل الطرق والوسائل، وحتى النقطة الاخيرة من عرقه ودمه.
اللقاء سيتم في توقيت 'ملغوم'، حيث تتصاعد التهديدات الاسرائيلية المدعومة امريكيا، بغزو جديد للبنان، وحرب ساحقة ضد سورية لاعادتها الى العصر الحجري، بسبب 'تهريبها' صواريخ 'سكود' الى 'حزب الله' اللبناني، وهي الصواريخ التي ستؤدي الى تغيير موازين القوى العسكرية في المنطقة، حسب تصريحات السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية في المؤتمر الامريكي اليهودي يوم الجمعة.
نخشى ان يكون نتنياهو يريد استخدام اللقاء مع الرئيس المصري وفي مثل هذا التوقيت كغطاء للحرب المقبلة، من خلال الايحاء بأن مصر تقف مع اسرائيل في الخندق نفسه، وتؤيد اي هجوم تشنه على سورية ولبنان، تماما مثلما فعلت السيدة تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة التي زارت منتجع شرم الشيخ والتقت الرئيس مبارك عشية العدوان على قطاع غزة.
' ' '
نتنياهو معزول، بل 'منبوذ' بسبب سياسته الاستفزازية، واصراره على تخريب عملية السلام، وتحدى العالم بأسره بالاستمرار في تهويد القدس المحتلة ومقدساتها الاسلامية والمسيحية، ومن المؤسف انه يلجأ دائما الى مصر، والرئيس مبارك بالذات، لكسر عزلته، ويجد البساط الاحمر مفروشا له في كل مرة تطأ قدمه ارض الكنانة.
لا نفهم هذا الغرام بنتنياهو الذي لم يتوقف مطلقا، وحكومته، عن توجيه الصفعات لمصر وشعبها وللأمتين العربية والاسلامية من خلالهما، فقد كذب على الرئيس مبارك شخصيا عندما وعده بدعم السيد فاروق حسني وزير الثقافة الحالي اثناء خوضه انتخابات رئاسة اليونسكو، ولم يف بالوعد على الاطلاق، وسقط السيد حسني بسبب الحملات التي شنتها شخصيات يهودية بارزة في فرنسا والعالم، تعتبر مقربة جدا من اسرائيل.
والاخطر من كل ذلك ان مؤامرة خنق مصر وتعطيش شعبها، وتدمير اقتصادها، وتحريض دول منابع النيل لتقليص حصتها المائية، تتم بدعم من حكومة نتنياهو التي ارسلت وزير خارجيتها افيغدور ليبرمان في جولة افريقية لتقديم صفقات اسلحة وخبرات هندسية في بناء السدود، ووفداً من رجال الاعمال وممثلي البنوك لتقديم عروض مالية وقروض مغرية لتمويل اي مشاريع لتحويل مياه النيل.
الرئيس مبارك يفرش السجاد الاحمر لنتنياهو بينما يماطل في استقبال الرئيس السوري بشار الاسد الذي اعرب عن رغبته بعيادته، مثلما تقتضي الاصول والاعراف، بل والاخلاق العربية والاسلامية، ونعتقد انه ليس من اللائق ان يعود نتنياهو زعيم اكبر دولة عربية واسلامية، قبل ان يعوده مثلا العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز، حليف مصر الاوثق الذي من المفترض وحسب الاعراف ايضا، ان يكون اول الزائرين.
' ' '
من المؤسف ان النظام المصري يتعرض لإهانات متواصلة من قبل اسرائيل، ويبتلع هذه الإهانات لان هناك مجموعة في قمة الحكم لا تقيم اي اعتبار لكرامة مصر او مكانتها، وكل ما يهمها هو مصالحها الضيقة التي يجب ان تتقدم على مصالح ثمانين مليون مصري، تعيش الغالبية منهم تحت خط الفقر، وتواجه في المستقبل القريب خطر الموت عطشا.
ان زيارة نتنياهو لشرم الشيخ تؤكد مرة اخرى ان النظام الحاكم في مصر دخل في تحالف استراتيجي مع اسرائيل، مهما فعلت ضد العرب، بل ومصر نفسها.
الايام الاخيرة شهدت مجموعة من الاحداث والتصرفات التي تؤكد ما نقوله آنفا، نوجزها في النقاط التالية:
اولا: اقدام قوات الامن المصرية على استخدام 'غاز سام' لقتل اربعة شبان فلسطينيين في نفق على الحدود مع مصر، وتدمير النفق فوق رؤوسهم، في خطوة وحشية لا تستخدم حتى مع الحيوانات. وهذا التصرف غير مستبعد اذا وضعنا في اعتبارنا قتل رجال الشرطة المصريين، وبصفة يومية، افارقة متسللين الى اسرائيل عبر الحدود في سيناء من اجل حماية الدولة العبرية وامنها، حتى لو جاءت هذه الخدمة على حساب علاقات مصر مع دول افريقية.
ثانيا: بعث الرئيس المصري رسالة تهنئة الى نظيره الاسرائيلي بمناسبة قيام دولته على ارض فلسطين وعلى حساب تشريد شعبها، وهي الدولة التي قتلت آلاف المصريين، ودمرت مدن القناة اثناء حرب الاستنزاف، واحتلت سيناء، واعتدت على لبنان وغزة، وما زالت تحتل اراضي عربية.
ثالثا: اقدام اسرائيل على اجبار السيد احمد ابو الغيط وزير خارجية مصر على الاعتذار وتوضيح تصريحات ادلى بها في لبنان، اثناء زيارته الاخيرة، ووصف فيها اسرائيل بـ'العدو'، والتهديد بخطوة انتقامية اذا لم يفعل، وقد فعل الرجل ما هو مطلوب منه واكثر وبسرعة قياسية.
رابعا: اصدار احكام جائرة على ما سميت بخلية 'حزب الله' من قبل محكمة امن الدولة طوارىء، تراوحت بين السجن المؤبد والحبس لعدة اشهر، ووفق ادلة مفبركة، بل ومضحكة، وتحت ذريعة انتهاك سيادة مصر.
' ' '
نشعر بمرارة ممزوجة بالألم لهذا الوضع المؤسف الذي تنحدر اليه مصر العزيزة علينا، مثلما هي عزيزة على مئات الملايين من المسلمين في شتى انحاء المعمورة. فماذا يمكن ان يخسر الرئيس مبارك لو امتنع ولو مرة واحدة عن ارسال برقية تهنئة الى الرئيس الاسرائيلي في يوم اغتصاب فلسطين، وماذا ستستفيد مصر من تفجير نفق فوق رؤوس العاملين فيه الذين يريدون ايصال الطعام والمواد الضرورية لأهلهم المحاصرين في قفص غزة؟
ثم لماذا يسارع السيد ابو الغيط لكي يوضح ويبرر عبارة وردت على لسانه، وتأكيد صداقة بلاده لدولة مارقة منبوذة تهدد بالعدوان على بلدين عربيين وقتل الملايين من ابنائهما، تحت ذريعة كاذبة عنوانها تهريب صواريخ الى حزب الله؟
ان هذا الحزب الحاكم الذي يضم رؤوس مافيا الفساد ونوابا يطالبون باطلاق الرصاص على المتظاهرين المطالبين بالتغيير من ابناء الشعب المصري، لن يتورع مطلقا عن استخدام الغاز السام لقتل ابناء غزة المحاصرين.
كنا نتمنى لو ان رئيس مصر هو الذي انتصر لسورية ولبنان في وجه عمليات الارهاب الاسرائيلية ـ الامريكية، وليس نائب الرئيس الايراني الذي هدد بقطع رجل كل من يعتدي عليهما. ولكن، ونقولها بحسرة، ان ما نتمناه شيء، وما يحدث في مصر ومن حكامها، على وجه الخصوص، شيء آخر مختلف تماما.                                                                                                      
                                                                                         مفاوضات طحن الماء
عبد الباري عطوان
 يبدأ السناتور جورج ميتشيل المبعوث الامريكي للسلام جولة مباحثات جديدة اليوم مع الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي للتمهيد للمفاوضات غير المباشرة التي سترعاها حكومته بدعم مما يسمى بلجنة متابعة مبادرة السلام العربية.
جميع الاطراف، سواء المؤيدة او الداعمة لهذه المفاوضات تؤكد ان فرص نجاحها محدودة للغاية، ان لم تكن معدومة، ولذلك فان السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هو عن الجدوى من الانخراط فيها؟
من الواضح ان الادارة الامريكية ترى ان حالة الجمود الحالية في العملية السلمية يجب ان لا تستمر، لانها ستؤدي الى حدوث فراغ سياسي يمكن ان تملأه قوى فلسطينية معارضة للمفاوضات، وتطور انشطة وفعاليات على الارض قد تتطور الى انتفاضة مفتوحة على كل الاحتمالات تقوض مكانة السلطة في رام الله، وتنسف مشاريع بديلها اي الدكتور سلام فياض رئيس الحكومة.
المسؤولون العرب الذين شاركوا في اجتماعات لجنة المتابعة العربية، ولبوا الطلبات الامريكية في اعطاء ضوء اخضر وللمرة الثانية باستئناف المفاوضات غير المباشرة، برروا مسلكهم هذا بالقول بان هناك اشارات مشجعة من ادارة الرئيس اوباما يجب التقاطها وتعزيزها وتوفير فرص النجاح لها.
نسأل وبكل براءة عن هذه الاشارات، فيأتي الجواب بالقول بان الادارة الامريكية قدمت ضمانات للجانب العربي حول وقف اسرائيل للاعمال الاستيطانية في القدس المحتلة، ونعيد السؤال بطريقة اخرى ونقول اين هي هذه الضمانات، فيقولون انها شفهية وغير مكتوبة وهي تكفينا على اي حال، وعليكم ان تتوقفوا عن دس انوفكم فيما لا يعنيكم، ونحن ننقل هنا عن مسؤول عربي كبير.
' ' '
علمتنا التجارب مع الامريكيين، باداراتهم المختلفة، ان مسألة الضمانات هذه 'اكذوبة' كبرى خاصة اذا اعطيت للعرب، ولكنها ونقولها بكل اسف، ملزمة بالكامل، وتتحول الى تعهد يحمل صفة التعاقد، اذا ما صدرت لصالح الاسرائيليين او استيضاحا لبعض مواقف الادارة الامريكية، مثلما حدث بخصوص رسائل الضمانات الامريكية التي بعثت بها ادارة الرئيس جورج بوش الابن الى ارييل شارون بخصوص ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية في القدس المحتلة.
فاذا كانت هذه الضمانات الامريكية بخصوص وقف الاستيطان في القدس المحتلة صحيحة، وجادة، فلماذا هي سرية، ولماذا لا تكون مكتوبة مثل نظيراتها الموجهة الى الطرف الاسرائيلي؟ فهل يعقل ان يشتري العرب 'سمكا في بحر'؟
فرق التبرير العربية الخاصة، تروج هذه الايام لمقولة تفيد بان ادارة الرئيس باراك اوباما ستعلن الطرف المعرقل للمفاوضات في حال انهيارها، وستذهب بعد ذلك الى مجلس الامن الدولي لاستصدار قرار يدين الاستيطان الاسرائيلي في القدس والضفة المحتلتين.
كلام جميل، ولكن من نوع شراء الوهم، وخداع النفس. فالسؤال لم يكن يتعلق باستصدار القرار، وانما ماذا سنستفيد منه، وماذا سيحدث بعده. هل ستتحرك الاساطيل الامريكية والبريطانية الى سواحل حيفا ويافا لتنفيذه بالقوة؟
أشعر بالاهانة عندما يهدد امين عام الجامعة العربية السيد عمرو موسى بالذهاب بالقضية الفلسطينية الى الامم المتحدة ومجلس امنها، وكأن هذه القضية لم تكن موجودة فيها على مدى الستين عاما الماضية، حيث المناقشات المطولة، والخطب الرنانة (من يذكر البندقية وغصن الزيتون) واكثر من خمسة وستين قرارا، قرار ينطح قرارا.
خبراء نحت المصطلحات والتبريرات، وما اكثرهم في السلطة والجامعة العربية، يقولون لنا ان المفاوضات غير المباشرة اهم من تلك المباشرة.. كيف؟ يبتسمون بخبث ثم يقولون وكأنهم وجدوا المعجزة.. فتش عن الدور الامريكي فهذه هي المرة الأولى التي سيكون الوسيط الامريكي هو المشرف على هذه المفاوضات، والناقل للأفكار موضع البحث الى الطرفين.
انها جعجعة بلا طحن، ومفاوضات اشبه بخض الماء لاستخراج الزبدة، فلا الاسرائيليون يريدون وقف الاستيطان في القدس المحتلة، ولا السلطة قادرة على تقديم تنازلات جديدة، لانه لم يبق شيء تتنازل عنه.
' ' '
الاسرائيليون يريدون الارض، وقد استولوا على معظم ما يريدون، ويبحثون حالياً كيفية التخلص من الشعب، وقد تكون الخطوة الاولى بأن يتركوا هذا الشعب يحكم نفسه على 'أرضهم' التي استولوا عليها، في اطار حكم ذاتي محدود في حدود هلامية غير محددة، واذا أراد ان يسميه دولة فليكن، او حتى امبراطورية فلا بأس. ألم يسموا اعضاء مجلس الحكم الذاتي وزراء بحيث يسبق اللقب كلمة 'معالي'، الم يكن المجلس التشريعي في الأساس، وحسب اتفاقات اوسلو مجلساً بلدياً او مجلساً للحكم الذاتي؟ تغير الاسم ولم تتغير الصلاحيات، ثم اختفى المجلس كلياً، بعد اعتقال رئيسه ونسبة كبيرة من اعضائه.
بنيامين نتنياهو يذهب الى شرم الشيخ ويلتقي الرئيس حسني مبارك في اجتماع مغلق اقتصر عليهما فقط، لماذا يكون الاجتماع مغلقاً اذا كان الهدف هو بحث عملية سلام علنية، لا بد ان هناك اموراً اخرى غير المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، قد نعرفها لاحقاً عندما تقصف الطائرات الاسرائيلية جنوب لبنان، او تقتحم الدبابات قطاع غزة مرة اخرى. ولا نريد ان نذهب بعيداً ونقول قصف سورية وايران، فما يحدث حالياً في منطقة الخليج واعلامها من تحريض ضد سورية وايران وحزب الله يذكرنا بالفترة التي سبقت غزو العراق واحتلاله.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي سيقوم بالتفاوض مع الاسرائيليين، لا يملك شرعية دستورية فلسطينية تخوله الانخراط في هذه المفاوضات او التوصل الى اي اتفاقات، فسلطته لا تسيطر على جميع الاراضي الفلسطينية، ومدة رئاسته انتهت رسمياً في كانون الثاني (يناير) قبل الماضي، وحتى الفتاوى القانونية التي اصدرها فقهاء السلطة، وافتت بأن صلاحيته كرئيس انتهت مع انتهاء مدة صلاحية المجلس التشريعي اي في كانون الثاني (يناير) الماضي لم تعد تفيده مطلقاً، فقد انتهت مدة التمديد ايضاً.
' ' '
فلا الرئيس يتمتع بالشرعية، ولا المجلس التشريعي، ولا المجلس الوطني، ولا اللجنة التنفيذية للمنظمة، وبالتالي لا شرعية لحكومة السيد سلام فياض المؤقتة التي تحولت الى دائمة، وبات هناك من يتحدث عن تعديلها. والأكثر مفارقة، ان هؤلاء يتحدثون عن وزارات 'سيادية'، وينسون ان الرئيس عباس نفسه يحتاج الى اذن لمغادرة مكتبه في رام الله من قبل عريف اسرائيلي في مكتب التنسيق.
انها ، توفر غطاء لادارة امريكية قد تملك نوايا طيبة، ولكنها غير قادرة على ترجمتها افعالاً على ارض الواقع، وربما تأتي الطامة الكبرى عندما نكتشف ان الهدف الاساسي والحقيقي منها، اي المفاوضات، تقديم 'غطاء' لعدوان اسرائيلي قادم على سورية ولبنان تحت ذريعة صواريخ 'السكود' التي غيرت موازين القوى في المنطقة، وباتت تهدد الوجود الاسرائيلي برمته.
هنيئاً للعرب ولجنة متابعة مبادرتهم السلمــــية بهــــذا الانجـــاز الكبير في استئناف المفاوضات غير المباشرة، فقد ابدى وزراء الخارجية العرب شجاعة غير مسبوقة عندما اصروا على وضع سقف زمني لهذه المفاوضات مداه مئة وعشرون يوماً، وهي في رأينا كافية، ان لم تكن مقررة اساساً، لاكمال الاستعدادات الاسرائيلية للحرب.

مفاوضات يجب التبرؤ منها

عبد الباري عطوان
منظمة التحــــرير الفلسطينية، وعــندما كانت في أسوأ أيامها (عام 1991) بسبب حصار دول الخليج المالي والسياسي ضدها لموقفها من حرب العراق الأولى، لم تذهب الى مؤتمر مدريد للسلام الا بعد عقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني، وأخرى للمجلس المركزي وحوالي عشر جلسات للجنتها التنفيذية، وجاءت الموافقة مشروطة بتحقيق خمسة شروط ابرزها الاعتراف بها، والتمسك بالثوابت الفلسطينية.
الآن يذهبون الى المفاوضات دون مجلس وطني ولا مركزي، وبعد اجتماع ناقص النصاب للجنة تنفيذية منتهية صلاحيتها أساسا، وتمثل نصف الشعب الفلسطيني ان لم يكن اقل.
هذه المفاوضات غير المباشرة التي بدأت يوم امس، حسب اعلان الدكتور صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية، جاءت وفق الشروط الاسرائيلية، ولأهداف ليس لها علاقة بالشعب الفلسطيني وتطلعاته في العودة واستعادة جميع الحقوق المغتصبة.
الموافقة 'المكتوبة' التي صدرت بالمشاركة فيها غير شرعية، وجميع المشاركين فيها، وعلى المستويات كافة، لا يتمتعون بأي تفويض شرعي من الشعب، في الوطن والشتات، ولهذا فإن أي اتفاقات قد تتمخض عنها، غير ملزمة للشعب الفلسطيني، والادعاء بأنها ستعرض عليه في استفتاء عام مرفوض، لأنه تزوير لإرادة هذا الشعب.
الفصائل الأبرز في منظمة التحرير، التي طالما وفرت الغطاء للسلطة لانتزاع التمثيل الفلسطيني دون وجه حق، قاطعت اجتماع اللجنة الاخير، واعترضت رسميا على المفاوضات، ونحن نتحدث هنا عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات الثقل الابرز في اللجنة على وجه الخصوص، التي طفح كيلها فيما يبدو، وانحازت الى الثوابت الوطنية أخيرا، وتراجعت عن مواقفها الاخيرة التي أدت الى فقدانها للكثير من رصيدها في الشارع الفلسطيني، وهو موقف يحسب لها ويستحق التثمين.
ما يسمى بأمناء الفصائل الذين 'وافقوا' على قرار المشاركة هذا، لأسباب نعرفها جميعا، ليس لمعظمهم أي تمثيل حقيقي في الشارع الفلسطيني، سواء في الوطن أو المنفى، وباتوا مجرد قطع أثاث في كيان مهترئ اسمه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فهذه انصاف أو أرباع فصائل، لم تفز معظمها بمقعد واحد في انتخابات المجلس التشريعي الاخيرة، وأصبحت في معظمها مقتصرة العضوية على أمينها العام وزوجته وأولاده وحراس مكتبه.
القرار الفلسطيني بات وللأسف الشديد محصورا في مجموعة من الافراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، ليس لهم أي مرجعية، وطنية، تناقشهم أو تحاسبهم، وهذا أمر خطير لا يجب السكوت عليه، حتى لا تورط الشعب الفلسطيني في اتفاقات تفرط بالحقوق المشروعة يصعب الفكاك منها، وتقيد الاجيال المقبلة.
' ' '
نحن أمام خدعة كبرى، يجري تغليفها بالقول بأن الذهاب الى المفاوضات غير المباشرة، جاء بقرار عربي، وعبر ما يسمى 'لجنة مبادرة السلام العربية'، تبنّته أثناء اجتماعها الاخير في مقر الجامعة العربية في القاهرة.
قرار لجنة المتابعة هذا ليس عربيا، وانما قرار أملته الولايات المتحدة الامريكية، على مجموعة من 'دول الاعتدال'، اجتمعت في ليل، وعلى عجل، وقررت توفير مظلة يستظل بها من أرادوا الذهاب الى المفاوضات... فهناك دول عربية، عديدة لم تستشر، ومعظمها لا يوافق على هذه الخطوة.
وعّاظ التبرير في السلطة، قالوا انهم بالموافقة على العودة الى المفاوضات غير المباشرة هذه، أرادوا تعرية اسرائيل أمام المجتمع الدولي، وكشف عوراتها وسياساتها الاستيطانية المعرقلة للعملية السلمية.
... سبحان الله، سمعنا هذه الكلمة أكثر من مليون مرة، على مدى السنوات الماضية، وكأن السياسات الاسرائيلية العدوانية والاستيطانية لم تكن عارية وبطريقة استفزازية، وكأن اسرائيل ومسؤوليها لا يتباهون بهذا العري ويفتخرون به.
إنه الافلاس في أبشع صوره، وأشكاله، والأخطر من كل ذلك ان هؤلاء المفلسين يكابرون، يكذبون ويتجملون، ويتعاملون مع الشعب الفلسطيني وكأنه قطيع يعلفونه بالوعود المعسولة المعلبة، ويستغلون فقره، وحصاره، ومعاناته، من أجل لقمة العيش، للانخراط في مخططات يعرفون سلفا انه يمقتها ويعارضها.
اسرائيل لم توقف بناء المستوطنات وتوسيعها ولن تتخلى عن عمليات تهويد القدس، وباقي الاراضي العربية المحتلة، وبالامس فقط جرى الاعلان عن بناء منازل جديدة في حي راس العامود بالقدس المحتلة، في اليوم الاول لبدء المفاوضات غير المباشرة في تحد واضح، واذلال متعمد للطرف الفلسطيني الذي سينخرط فيها. ومن أعلن ذلك ليس المتحدثون باسم السلطة، وانما حركة 'السلام الآن' الاسرائيلية، ولن نستغرب اذا ما نفى هؤلاء هذا النبأ.
' ' '
الادارة الامريكية، مثل كل الادارات التي سبقتها، تعرف جيدا الطرف المعرقل لعملية السلام، ولا تحتاج الى الاشراف على مفاوضات، مباشرة أو غير مباشرة، للتأكد من ذلك، فقد كانت أمريكا الراعي الوحيد لكل جولات المفاوضات المباشرة التي انطلقت قبل سبعة عشر عاما، ومنذ توقيع اتفاقات أوسلو على وجه التحديد، ولكن هناك من أدمنوا عمليات التبرير وباتت جزءا أصيلا من سياساتهم.
المسألة مسألة كسب وقت، لا أكثر ولا اقل، ريثما تكتمل الاستعدادات اللازمة، عسكريا، أو دبلوماسيا (عقوبات اقتصادية) للتعاطي مع الملف النووي الايراني، والتسليح المتضخم للمقاومة الاسلامية في جنوب لبنان بقيادة حزب الله، ودعم سورية له بالصواريخ والعتاد العسكري.
' ' '
نشعر بالألم ونحن نرى طرفا فلسطينيا يُوظَف، وبطريقة بشعة، في خدمة هذا المخطط الخطير، وهو مفتوح العينين، وعلى اطلاع على معظم تفاصيله، ان لم يكن كلها. ويجتهد في الدفاع عنه.
عارضنا القرار الوطني الفلسطيني المستقل، انطلاقا من ايماننا بعروبة هذه القضية وإسلاميتها، وعندما كانت الحكومات العربية تبني سياساتها الامنية والعسكرية من أجل تحرير فلسطين من البحر الى النهر، وتتبنى لاءات الخرطوم الثلاث، وتسخر كل امكانياتها من اجل خوض معارك الشرف والكرامة، ولكن الآن، وبعد أن أصبحت معظم الحكومات العربية أدوات في خدمة المخططات الامريكية والاسرائيلية، فاننا نطالب بالتمسك بالقرار الفلسطيني المستقل، ونرفض ان تختطف هذا القرار لجنة عربية هجين، تسمى بلجنة متابعة مبادرة سلام تعفــــنت وفاحت رائحـــتها... لجــنة رئيستها الحالــــية الحقيقية هي السيدة هـــيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، التي تسلمت زمام القيادة من سلفها غير الصالح السيدة الأخرى كوندوليزا رايس.
المفاوضات غير المباشرة هي 'مسجد ضرار' آخر لإجهاض حراك فلسطيني بدأ يتبلور، يدفع باتجاه المقاومة بأشكالها خاصة، بعد أن ترسخت القناعات بسقوط حل الدولتين، وفشل العملية السلمية، ولذلك يجب أن يتبرأ منها الشعب الفلسطيني، والمشاركون فيها، قبل فوات الأوان، ونحن اول المتبرئين.
الشعب الفلسطيني، ليس حـــــقل تجارب، ولا يجب أن يكــــون، لأنه شــــعب كريـــم أبي، تاريخه العريق والمشرف، يشهد على تضحياته وبطولاته وصموده في مواجهة أبشع أنـــواع الحصار والعدوان. ومشكلته أن بعضا من أبـــنائه يتجــــاهلون هذه الحـــقائق، ويتعامــــون عنها، ويلهـــثون خلف سراب حلول وتســـويات دون كلل أو ملل.                                                    
                                                                                  نريده مصريا.. ولكن بمواصفاتنا
عبد الباري عطوان
القى السيد عمرو موسى قبل ايام حجرا كبيرا في بركة الجامعة العربية الآسنة عندما اعلن عدم رغبته في البقاء في منصبه كأمين عام عندما تنتهي ولايته الثانية، في ايلول (سبتمبر) المقبل، الامر الذي اعاد احياء جدل قديم حول مدى احقية مصر في احتكار استضافة المقر، واختيار الامين العام من بين ابناء جلدتها.
الجزائر كانت، وما زالت، الاعلى صوتا من بين اقرانها العربيات التي طالبت بكسر هذا الاحتكار المصري، و'تدوير' منصب الامين العام، لان الجامعة تمثل جميع الحكومات والدول، ولا يوجد نص في ميثاقها ينص على حصر هذا المنصب في ابناء دولة المقر.
وزاد هذا الموقف الجزائر صلابة بعد تدهور العلاقات المصرية ـ الجزائرية في اعقاب الاحداث المؤسفة التي نتجت عن المنافسة الكروية بين البلدين للوصول الى نهائيات كأس العالم وما رافقها من حملات اعلامية متبادلة اتخذت طابعا اقرب الى الاسفاف والتجريح والالفاظ النابية والعنصرية في احيان كثيرة.

' ' '
كثيرون ادلوا بدلوهم في هذه المسألة، لصالح هذا الطرف او ذاك، بينما التزم البعض 'الحياد' ايثارا للسلامة، ولكن معسكرين بدآ يطلان برأسيهما، الاول يطالب باختيار امين عام غير مصري للجامعة تتزعمه الجزائر ويضم دولا مثل تونس وقطر وسورية، والثاني يتمسك 'بتمصير' هذا المنصب، باعتبار مصر الدولة الاكبر نفوذا واهمية، بحكم دورها وحجمها وتاريخها. وتردد ان المملكة العربية السعودية اقترحت حلا وسطا بان يتولى وزير خارجيتها الامير سعود الفيصل هذا المنصب لفترة انتقالية تستمر عاما، لتنفيس الاحتقان وتطويق الخلاف، ولكن المملكة نفت ان تكون قد تقدمت بمثل هذا العرض ـ الحل.
لا بد من التسليم بان فترتي رئاسة السيد عمرو موسى للجامعة كانتا مخيبتين للآمال، لان الرجل لم يرتق الى مستوى التوقعات الكبيرة التي كانت سائدة في الاوساط العربية على المستويين الرسمي والشعبي عندما تولى هذا المنصب خلفا للدكتور عصمت عبد المجيد. وربما يدافع الرجل عن نفسه بالقول بان الوضع العربي وما شهده ويشهده من انقسامات واحداث جسيمة جعل من مهمته اكثر صعوبة وتعقيدا، ولكن هذا ليس عذرا على الاطلاق، لانه انحاز في بعض الاحيان الى معسكر دون آخر، وخاصة دول 'محور الاعتدال'، ولم ينجح مطلقا في تحديث الجامعة ومؤسساتها، وتبني مشاريع وقرارات كشفت عن ارتجال غير مدروس مثل تعيين مفوضين للاعلام والثقافة، وتأسيس البرلمان العربي، فاضاف مزيدا من البيرقراطية والتكلس الى جامعة هي متكلسة اصلا تمثل 'تكية' لجيش من الموظفين اغلبهم دبلوماسيون عرب سعوا للوظيفة من اجل الكسب او الراحة او الاثنين معا، ناهيك عن تحول الجامعة كمؤسسة توظيف لابناء المسؤولين الكبار في الدولة المصرية ودول عربية اخرى.

' ' '
نحن هنا لسنا بصدد محاسبة السيد موسى، فهو لم ينتخب من قبلنا على اساس برنامج سياسي او اجندة عمل واضحة، ولكننا نرى ان من واجبنا مناقشة مسألة 'التدوير' المثيرة للجدل حاليا، وهوية الامين العام القادم هذا اذا لم يكن اعلان السيد موسى عن عزمه الاستقالة هو مجرد 'بالون اختبار' للتهيئة مبكرا لحشد الجهود لاقناعه بالبقاء لفترة ثالثة.
اولا: نحن مع بقاء مقر الجامعة في مصر، ومع استمرار النهج المتبع حاليا باختيار امينها العام من مصر، لان الخلاف حول هذه المسألة ليس مع مصر كبلد، وانما مع سياسات نظام جمد دورها واضعفه، واضعف الامة العربية برمتها من خلال ذلك. فعندما كانت مصر قوية رائدة تقود الامة لمواجهة الاخطار التي تهددها، لم يتم مطلقا طرح مسألة 'التدوير' هذه، او هوية وجنسية امين عام الجامعة.
ثانيا: عندما تخلت مصر الرسمية عن هذا الدور وشتتت الصف العربي بالصلح المنفرد مع اسرائيل، جرى نقل المقر الى تونس، واختيار امين عام منها (الشاذلي القليبي)، ولكن عندما تصالح العرب مع نظامها، وغفروا له ذنب كامب ديفيد، قبلوا بعودة المياه الى مجاريها، بتوجيهات امريكية، ولمقتضيات الحرب العراقية ـ الايرانية، الامر الذي كرس النهج المصري الرسمي في تحويل الجامعة الى ادارة تابعة لوزارة الخارجية المصرية، حيث اصبح جميع الامناء العامين وزراء خارجية سابقين.
ثالثا: اعتماد مسألة 'التدوير' ليس ضمانة للنجاح، فمنصب الامين العام في مجلس التعاون الخليجي يخضع لمثل هذا المعيار، ولم يتحقق اي تقدم على مسيرة المجلس، بل ازدادت اوضاعه تدهورا على مدى الثلاثين عاما تقريبا من تأسيسه والانقسامات داخله لا تقل خطورة عن نظيرتها في الجامعة العربية رغم التجانس الكبير بين اعضائه، اما الانجازات فما زالت محدودة للغاية واقل بكثير من التوقعات، فالعملة الخليجية ما زالت حلما، والتنقل بحرية ما زال يواجه عقبات واسألوا طابور الشاحنات الذي يطل برأسه بين حين وآخر على الحدود الاماراتية ـ السعودية، وربما يفيد التذكير ايضا بان منصب امين عام منظمة المؤتمر الاسلامي ومقرها جدة في السعودية يتم تدويره بين الدول الاسلامية، فمن يسمع بالامين العام الدكتور احسان اوغلو، ومن يسمع بمنظمته، ومن يتذكر اي انجاز لها.
رابعا: لن يتغير حال الجامعة الا اذا تغير حال الامة وانظمتها، والانظمة الحالية فاسدة متعفنة ديكتاتورية في معظمها. فالجامعة جامعة دول وانظمة، ولهذا لا امل في اصلاحها في المستقبل القريب وربما هذا ما يفسر توجه السيد عمرو موسى الى اختراع 'رابطة دول الجوار'، لتكون بديلا او مكملا للجامعة، اي انه يريد كنس قمامتها تحت سجاد هذا التكتل الجديد، وتصدير الازمات العربية اليه.

' ' '
ما نريد قوله، وباختصار شديد، ان ما يمكن فعله حاليا هو تقليص الخسائر والاضرار بقدر الامكان فالمشكلة لم تكن مطلقا في جنسية الامين العام ومصريته على وجه التحديد، وانما في طريقة اختياره، والاصرار من قبل الحكومة المصرية على ان تحيل وزراء خارجيتها الى المعاش في الجامعة، لابعادهم اولا واغلاق الباب امام طموحاتهم في المنافسة على الرئاسة (حالة عمرو موسى) أو جمع ثروات وامتيازات وقضاء فترة تقاعد مريحة (حالة الدكتور عصمت عبد المجيد).
يجب الحفاظ على عروبة مصر من خلال بقاء الجامعة فيها، واستمرار تولي امانتها العامة من قبل احد مواطنيها، لان هذه العروبة مهددة، ما هو مطلوب هو تغيير آليات الاختيار، فهناك كفاءات مصرية كثيرة يمكن ان تتولى عملية تحديث الجامعة وتحريرها من بيروقراطيتها الراهنة لا بد من البحث عنها، ومنع النظام الحالي من مواصلة 'سنته' في تصدير المتقاعدين اليها.
بمعنى آخر مطلوب شخصية مصرية مستقلة كفء من خارج النظام المصري الحالي المتحلل والمرفوض شعبيا، ونحذر مسبقا من عدم السماح لشخص مثل السيد احمد ابو الغيط وزير الخارجية الحالي من تولي هذا المنصب العربي، فشخص يريد تحطيم ارجل المحاصرين من ابناء قطاع غزة اذا ما عبروا الحدود المصرية بحثا عن لقمة خبز، لا يستحق ان يكون مصريا اساسا، ولا يؤتمن على منصب يفترض ان يمثل صاحبه العرب ويعمل على تعزيز اواصر القربى بينهم ويدافع عن قضاياهم.
النظام المصري الحالي ليس مخلدا، وهو زائل لا محالة ورئيسه لا يمكن ان يعمر ما عمره سيدنا آدم اي الف عام، ولهذا علينا ان نفكر دائما بمصر كقاطرة اسياسية للامة، وان نكظم غيظنا تجاه ما يجري فيها من مبكيات ونكسات كان آخرها تهنئة اسرائيل في عيد اغتصابها فلسطيننا او قتل صيادي غزة الجوعى الباحثين عن سمكة صغيرة لاطعام صغارهم الجوعى، في بحر مصري هجره صيادوه الى بحور اخرى بعيدة بعد ان هجرته اسماكه ايضا.
نريد امينا عاما للجامعة يتوفر فيه الحد الادنى من العروبة والكرامة، ولا يكون صورة لزعماء عرب تخلى الكثير منهم عن هذه الابجديات.
ويقيننا ان هناك شرفاء في مصر ارض الكنانة ينطبق عليهم هذا الوصف.