الثلاثاء، 20 يوليو 2010

كوميديا سوداء ل 'شاهد مَفْهِمْش حاجة!': حول تعليقات شعبولا السياسية!
7/20/2010


كان الحوار الذي أجرته 'القدس العربي' مع المغني الشعبي المصري 'شعبولا' أول ما استرعى انتباهي وأول ما بادرت إلى قراءته عند تصفحي موقع الجريدة، مع أن كلمة رئيس التحرير كانت حاضرة وتناولت موضوعا من الأهمية بمكان هو موضوع الثورة القرغيزية الحبلى بالعبر والدلالات بالنسبة للشعوب العربية. ضروري أن تُدْرَس وتُحلّل بكل تمحُّصٍ التصريحاتُ الدبلوماسية الرسمية لشخصيات مؤثرة، أو الأحداث المستجدة كالثورة القرغيزية 'المستمرة والمفتوحة'، فهي تمكن من استخلاص العبر والأدلة المنطقية على وجود أو استحكام داء من الأدواء، تماما مثلما استخلصت كلمة رئيس التحرير استنتاجاً لا يخرّ المنطق مفادُه أنه 'يبدو أن المشكلة لم تعد في الحكام العرب وإنما في الشعوب العربية أيضا'. مثل هذه الاستنتاجات تشير إلى الداء وتصف أعراضه الظاهرة منها والخفية لكنها لا تميط اللثام تماما عن أسبابه الحقيقية إلا إذا اقترنت بدراسات من نوع آخر هي غالبا في المتناول ألا وهي الدراسات الاجتماعية لنماذج 'الشخصية العامية' التي تشكّلُ أغلبيةَ الشعوب العربية بسبب ما هو مُتفشٍّ في أوساطها من فقر وأمية وكلّ مكوّنات وبَهارات 'خلطة التخلّف'. ولعل هذا هو ما انتبهت إليه 'القدس العربي' بإجراء حوار مع الفنان 'العامي' شعبولا الذي 'كبّرُوها في دْماغُه' فلم يعد يتوانى عن ركوب المستنقع السياسي المصري (وعلى أعلى المستويات خَلِّي بالَكْ!)، ويتصرف مثل فنانين 'زعماء' آخرين كشهود 'مفهموش حاجة'!. كان الحوار شيّقا لأنه كان مفيدا ومسليا في آن، إذ لم تغادر البسمة محيّاي وأنا أطالعه بشغف، بل إنه جعلني في مقاطع منه أخرق سكون الليل بقهقهات عالية، 'دمّو خفيف بشكل، شعبولّا دا!' قلت في نفسي مرارا وباللهجة المصرية انسجاما مع مقتضى الحال. لم يخب حدسي إذن وكان الحوار مع 'شعبولا' زاخرا بالمعطيات التي تسهّل تحليل شخصية رجل يتماهى فيه الملايين، الرجل الذي يمكن لوحده أن يشكّل عيّنةً تغني الباحثين الاجتماعيين عن عينات بحث مئويةٍ أو ألفيةٍ مُجهِدة ومكلفة، لينوب عن عوامّ وأمّيي الوطن العربي، الرجل الطيب الذي صدّق أنّ كبار البلد يكرهون إسرائيل فكَرِهَها وصمّ الآذان بكُرْهها، ولو علِم أنّهم صاروا يكرهون خصومها لُأحبَّها لِتَوٍّه وصمّ (بردو) الآذان بحبها، إذ يكفي أن يشير عليه بذلك 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد' ليتصل بكاتب كلماته قائلا : ' كَوَّرْ وِهَاتْ أَعطيهُم، مَاجُورْ' .
قلت بالحرف في مقال سابق عن جمال مبارك، والشخصية بالشخصية تُذْكر، أنّه 'حتى قبل ترشحه قد جمع من المعارضين ما يكفي لإنجاح 'شعبولا' لو ترشح ضده' وأضفت: 'مع احترامي للأخير كفنان شعبي ملتزم'، لكن فاتني أن أضيف''ملتزم بما ينصحه به 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد، واللي ميقدرش يزعّلهم'، كان حديثي عن ترشح 'شعبولا' ضد جمال مبارك من باب المجاز لكنه تحول بعد أسبوعين فقط إلى واقع بشكل من الأشكال، فـ'شعبولا' ينوي فعلا الترشح، لكن ليس للرئاسة، معاذ الله! فهذه بالذات 'محدّش يقدر يكبّرها في دماغه' لسببين وجيهين، الأول أن 'عقل باله قال له ياكل عيش ويربط الحمار مطرح ما يقول صاحبه' والسبب الثاني بكل بساطة أنه 'لا يريد مثل البرادعي أن يستولي على منصبِ رئيسٍ لِسَّه مشبعش مِنّو'، إنما يريد 'شعبولا' الترشح لمجلس الشعب وبسّ، أضف إلى ذلك، وحتى لا يُساء فهم كلامِه، أنه اشترط على نفسه 'كابن حلالٍ مبتدِئ' أن يترشح بعيدا عن دائرة السيد يوسف بطرس غالي، 'وبعدين الكِبيرْ كِبيرْ، آهْ!' ألم أقل لكم أني 'أخشى' أن يهزِمَ 'شعبولا' جمال في الانتخابات؟ ها هو ذا بنفسه يخشى من نفسه على يوسف 'صاحب الفضل عليه'. وطبعا وحتى لا يساء فهمي، فأنا لا أجادل في حق أي مواطن مصري في 'الترشح' لمجلس الشعب أو حتى 'التحرّش' برئاسة مخوصصة مصون كما فعل البرادعي دون أن 'يخشى أو يختشي'، فشعبولا في النهاية لا يختلف كثيرا (أقصد فكريا) عن نسبة مهمة من البرلمانيين العرب، بل إنه يتفوق على معظمهم في الجهر 'بكُرْهِ إسرائيل' والدعوةِ إلى إزالتها، هذا إذا كان ما يزال على كرهه إياها ولم يتصل به 'أولاد الحلال' ليحذّروه من تهمة معاداة السامية المسلطة على الرقاب هذه الأيام، ولأن هؤلاء 'بيقروا جرايد' فإنهم سيحذرونه من أن الاعتذار لن ينفعه مع إسرائيل، وسيُذكِّرونه بمصير السيد فاروق حسني الذي زحلقته إسرائيل حين كان على وشك انتزاع منصب الأمين العام لمنظمة اليونسكو رغم اعتذاراته، ولم يشفع له لديها كونه 'راجل معروف للدنيا وِمْصاحِبْ الرّؤسا' على غرار السيد البرادعي. هنا قد يقول لي قائل : 'لا ترعب الرجل بإسرائيل أكثر مما هو مرعوب، فقد كان على وشك أن يُعلّقَ من لسانه لو غنى عن البرادعي حين كان ما يزال يظنه من أقارب الرئيس!' صحيح أن الرجل كاد يفقد لسانه مصدر رزقه فيصير مثل ذلك الذي صار يجري بين الجموع ويصيح واضعا يده على خدّه : 'ضاع مستقبلي ضاع مستقبلي' فلما لحق الناس به ليستفسروه وجدوا أنه زمّار انفجر خده من شدة النفخ في المزمار. بحق لا أريد أن أرعب الرجل، فهو قبل وبعد كل شيء رب أسرة طيّب وإن كان على نياته 'شيئا ما!'، إنما أردت أن أَسُوقَ تصريحاته العفوية والساذجة أحيانا، كمثال صارخ بل مثالٍ 'صادحٍ وشادٍ' عن الضحالة المعرفية والفكرية والخواء السياسي المُطْبِق الذي وصل إليه عشرات الملايين من المصريين والعرب عموما، من فرط التفقير والحرمان من تعليم أساسي ذي مستوى يكفل الحد الأدنى من المعرفة ويضمن إمكانية استمرار التعلُّم والتثقيف اللازمين لممارسة سليمة للمواطنة حقوقا وواجبات. وليْتهم على الأقل تُرِكوا في حالهم ولم يَزُجَّ بهم 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد' في لعبة وصراعات لا قِبَلَ لهم بها ولا يفهمونها أصلاً،فحوّلوهم تارة إلى ديكور لديمقراطيات صورية، وتارة أخرى إلى مطبِّلين ومزمِّرين وسُعاة أوراقِ تصويتٍ يضعونها حيث يُمْلى عليهم.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب من المغرب - القدس العربي اللندنية

المعلمون العرب: بين اختلال النظم التربوية وحيف الأنظمة السياسية
6/4/2010

يعتبر الإصلاح السياسي المدخل الطبيعي والمنطقي لأي إصلاح قطاعي كإصلاح النظام القضائي أو الصحي أو التربوي أو غيره، ذلك لأن الإصلاحات القطاعية أو المجالية رهينة بالإرادة السياسية الأكيدة، الكفيلة بمنح تلك الإصلاحات 'القوة' التشريعية والتمويل اللازمين للتخطيط السليم وإشراك الكفاءات وما يليها من تتبّع وتقويم ومحاسبة. كيف يعقل إذن أن نستسيغ كل دعوات ومحاولات الإصلاح القطاعية في العالم العربي، في غياب الإرادة السياسية غيابا واضحا يجسّده جمود الأنظمة السياسية واختلال القوانين والدساتير؟ وهل يمكن إنجاح الإصلاحات دون عمليات التتبّع والتقويم والمحاسبة التي تستمدّ جدّيتها وشفافيتها من جدّية وشفافية النظام السياسي، الحاضن الرئيسي لكلّ النُّظم القطاعية؟
إنّ في معظم دساتير الدول العربية مواد مثيرة للجدل لتعارضها مع المبادئ الديمقراطية أو تقييدها للحريات المدنية أو السياسية، وكثير من قوانينها موروثة أو متقادمة، كما أن البرلمانات العربية تتشكل في معظمها من قلة غير مؤثرة من الكفاءات العلمية والأكاديمية ومن خليط هجين من الأعيان والمُعيَّنين والأميين وأنصافهم، وبالتالي فإن بانتفاء التشريعات والقوانين المناسبة وانتفاء إمكانية تعديلها وتطويرها، يستحيل إيجاد أرضية ملائمة لإرساء الإصلاحات القطاعية. فإصلاح قطاع التعليم مثلا يبقى دون مفعول بل يصير مُرْبِكاً إن لم يتم الخوض مسبقا في مسائل سياسية كالإجماع عبر المؤسسات التشريعية حول فلسفة تربوية (ميثاق وطني) تكون منطلقا لتحديد الثابت والمتغيّر في السياسات التعليمية المتعاقبة، وضمان استمرارية وتناسق تلك السياسات وإن تغيّرت الحكومات. في موضوع إصلاح التعليم بالذات وحتى إن تمّ الإجماع على ميثاق للتربية والتكوين وسنّ قوانين وتشريعات تضمن استمرارية وتناسق السياسات التربوية المتعاقبة، ستبقى نتائج الإصلاح رهينة بما يرصد لمشاريعه من إمكانات مادية مهمة في معظم المجالات كالبرامج والمناهج والموارد البشرية والبحث العلمي والتكوينات وغيرها. ومن ثمّ فإن ترجمة الإرادة السياسية للإصلاح في الواقع، لا تكون بإكثار المشاريع والتزمير لها واستجداء انخراط الفاعلين التربويين المُرْبَكين المُنهَكين أصلاً، بل بالعمل على رصد الإمكانات المادية اللازمة وتتبع أوجه صرفها، إذّاك فقط يمكن للإرادة السياسية أن تتبلور في الواقع، وليس بالتذرّع بكون الإنفاق على التعليم قد تجاوز ربع ميزانية الدولة كما هو الحال في المغرب مثلا، فليكن الثُّلُث أو الخُمُسَيْن أو حتى نصف الميزانية إن حَضَرَت الإرادةُ السياسية التي يؤمن أصحابها فعلا أن التعليم 'يبيض ذهبا' وإن آجلاً، فمعدلات الإنفاق على التعليم في الدول العربية جد منخفضة مقارنة مع مثيلاتها في الدول المتقدمة وبعض الدول النامية، إذ تتراوح في الدول المغاربية بين 600 و 1000 دولار للتلميذ الواحد سنويا بينما يبلغ معدل الإنفاق على التعليم في فرنسا مثلا ما يفوق عشرة أضعاف متوسط معدلات الإنفاق العربية! لا يكاد الملاحظ العادي يجد في الغالب فرقا من حيث التجهيزات والوسائل بين المدارس والفصول العربية ونظيراتها في الدول المتقدمة، فأين يُصرف الفرق الشاسع بين ميزانيات التعليم العربية ونظيرتها في تلك الدول؟ وما الذي يبرر الفرق الواضح في المردودية؟
إن مدرسة 'النجاح' كما يحلو للبعض أن يسمّيها لا تعني فقط الساحات المعشوشبة أو الفصول المزيّنة أو المعلّم 'المُهندَم'، وإنما أيضا نوعية البنية التحتية والصيانة الدورية، وتكوين المعلمين وباقي الأطر التربوية والإدارية والرفع من أجورهم وتعويضاتهم ومن الخدمات الاجتماعية المقدَّمة لهم، وإعداد البرامج والمناهج بناءً على نتائج بحوث علمية جادة، وإرساء إدارة تربوية رشيدة وإشراف تربوي مستقل ونزيه، إضافة إلى وضع آليات التتبّع والتقويم والمحاسبة، وهي كلُّها مجالات كان للتقصير في الإنفاق عليها (إن لم نقل التقتير مع بعض الاستثناءات) تأثيرٌ واضحٌ على المردودية العامة للأنظمة التعليمية العربية. وللأسف ليس عشرات ملايين التلاميذ، أطر المستقبل، هم الضحايا الوحيدون للتقتير في الإنفاق على التعليم وبالتالي تبخيس دور التربية والتعليم في تطوُّر الشعوب ورقيِّها، وإنما هناك ضحايا آخرون بمئات الآلاف هم المعلمون العرب، ويا لمحْنةِ المعلمين العرب! فإذا أضفنا كثرة أعدادهم إلى توجُّه الأنظمة العربية نحو التقتير في الإنفاق على التعليم بالذات، تبيَّن لنا سبب تدني أجور المعلمين العرب عموما وما يترتّب عنه من شظف العيش واستحالة الاستعداد المادي والمعنوي لتطوير الأداء والرفع من المردودية المهنية، وإذا أضفنا إلى تدني الأجور انعدامَ أو نقصَ الحقوق النقابية للمعلمين وحِدّةَ الردود غير المبرّرة على مطالبهم المُلحّة، من منع النقابات و'الطعن' في الهندام واللِّحَى بالأردن إلى التهديد 'بالويل والثبور' في الجزائر مرورا باقتطاع أيام الإضرابات من الأجور بالمغرب، تتّضِحْ لنا محنة المعلم العربي ومعاناته المادية والمعنوية في وضعية لا يُحْسد عليها بين ضعف وعشوائية النُّظم التعليمية وتخلُّف الأنظمة السياسية واختلال أولوياتها واختياراتها.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

إصلاح الأمم المتحدة، قبل فوات الأوان
05/04/2010
قبل بضع سنين تعالت انتقادات شديدة لمنظمة الأمم المتحدة وتوجه العديد من كبار المفكرين والسّياسيين إلى المناداة بضرورة إصلاح المنظومة الدولية برمتها، لكن سرعان ما خفتت تلك الانتقادات والدعوات وكأنها لم تكن إلّا بَالُون اختبار أطلقته القوى المهيمنة دائمة العضوية وبالأخصّ منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. يحدث هذا في وقت يرى العامّةُ قبل المختصّين أنه يتعيّن بالفعل إدخال تعديلات جوهرية على هيئة الأمم المتحدة من حيث تشكيلتها وتسييرها ولاسيما نوعية ومستويات التمثيل بها وكيفية التصويت على قراراتها وتوصياتها، أو لِمَ لا، بكل بساطة إعادة تصور واستحداث هياكل منظومة دولية جديدة بمعايير أكثر ديمقراطيةً وتناسباً.
خفتت إذن الدعوةُ إلى إصلاح منظمة الأمم المتحدة وإن لاحت لفترة قصيرة بوادر الرغبة في توسيع العضوية الدائمة بإلحاق بعض كبريات الدول من أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كما تعالت المطالبات بتمثيل جنوب إفريقيا للقارة السمراء. لقد اتضح أن لا أحد لديه الرغبة في متابعة الموضوع إلى مداه، رغم الأهمية إن لم نقل الأولوية القصوى التي يكتسيها إصلاح هياكل الأمم المتحدة لتفادي التداعيات الخطيرة للملفات المُلِحّة التي باتت تثقل كاهل 'المجتمع الدولي' وتهدد السّلام العالمي.
ومع كل بوادر جنوح الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى الهيمنة والفردانية، وتخلّيها عن لعب الأدوار المنوطة بها كوسيطة في حل النزاعات الدولية، ونزوعها نحو استغلال مكانتها ونفوذها في المنتظم الدولي لتحقيق مصالحها بل وحتى المآرب الشخصية لحكامها والدائرين في فلكهم وشركاتهم العابرة للقارات، ومع صمت وخضوع باقي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لأسباب تتعلق بالتبعية السياسية أو الاقتصادية، وبالأخص منها الدول ذات الاقتصاديات والديمغرافيا المهمة أو التقدم التكنولوجي والنووي كالهند وباكستان واليابان وألمانيا وإيطاليا والبرازيل وإيران وتركيا، مع كل ذلك لا أعتقد أن الوضع الحالي يمكن أن يستمر طويلا، وذلك للأسباب التالية :
1. انكشاف تفرّد أمريكا وبريطانيا وفرنسا بـ'قصف' الدول 'المارقة' بمقترحات القرارات حسب ما تقتضيه مصالحها ومصالح حلفائها، واكتفاء روسيا والصين بحماية بعض حلفائهما وشركائهما الاقتصاديين مثل كوريا الشمالية وإيران من 'القصف القراراتيِّ' باستعمال الفيتو.
2. نشوب صراع سياسي واقتصادي في الخفاء والعلن بين أعضاء مجلس الأمن الدائمين المنقسمين إلى مجموعتين متباينتي المصالح والتوجهات. 3. تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وما سينتج عنه لا محالة من تغير الخريطة الاقتصادية وبالتالي الاستراتيجية بالعالم.
4. تكاثر الأزمات والنزاعات السياسية الدولية وعجز المنتظم الدولي عن حلّها، فقد تراكمت وصارت مزمنة نزاعات حدودية بالعشرات وانتشرت دعوات انفصال في مختلف القارات، ناهيك عما يحصل هنا وهناك في العالم من جرائم وإبادات، دون أن يبادر إلى منعها أو معاقبة مرتكبيها.
5. تزايد الدول 'المارقة' المعارضة للنهج الدولي الحالي وحصول (أو قرب حصول) بعضها على سلاح الردع النووي (مثل كوريا الشمالية وإيران مثلا) ينبئ بالتغير الحتمي للوضع الاستراتيجي في العالم. كل هذه الأسباب والعوامل مجتمعة ستؤدي في اعتقادي إلى حتمية تغيير المنظومة الدولية بشكل من الأشكال، أتمنى ألا يكون دمويا كما في السابق. فهل ستعقل القوى العظمى هذه المرة قبل أن يكون الأوان قد فات؟ وهل تتجنب سيناريو إنشاء 'عصبة الأمم' و'الأمم المتحدة' على التوالي بعد حربين عالميتين أذاقتا البشرية ما أذاقتاها من ويلات؟
عبد اللطيف البوزيدي-كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية

الديمقراطية التناسبية: نِدِّيَةٌ محلية ودولية 02/04/2010
لم أقصد باقتراح 'التناسبية في الديمقراطية' في مقال سابق ('القدس العربي' عدد 6408 في 15/01/2010) أن أَحيدَ عن مبادئ الديمقراطية القائمة على التعددية والتداول وفصل السلطات وغيرها. كما لم أكن باقتراحاتي في هذا المجال لأدَّعِيَ ابتكار نمط جديد من أنماط الاقتراع، فقد استحدث مُنَظِّرُو السياسة ما يكفي منها وما زالت صالحة وذات مصداقية علمية أكيدة ما لم يشُبْها تحريف أو تزوير إبَّان التطبيق. لم أدّعِ إذن تغيير جوهر الديمقراطية وإنما انصب اهتمامي على التفاصيل، واكتفيت باقتراح تقني بسيط لكنني أعتقد أنه على درجة كبيرة من الأهمية، يتمثّل في سُلّم تنقيط مُحْكم يُبْنى وفق معايير متفق حولها قطريا أو دوليا إذا اعتُمد مبدأ التناسب في إصلاح هياكل الأمم المتحدة المتقادمة، سلّمٌ يُعْتمد قبل أي اقتراع لتقييم أصوات الناخبين وتقنين الترشيح للهيئات التمثيلية في كل دولة أو تقييم أصوات الدول تناسبيا، قبل أي تصويت لطرح قرار أممي أو اعتماده، تقييم وتقنين ينبغي ألاّ يُعتبرا تمييزا بين المواطنين أو بين الدول بمعناه السلبي ، كالتمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الطائفة أو العشيرة أو العقيدة، وإنما هو تمييز إيجابي وصحي على أساس معايير النضج والكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية يتوخى الرفع من مستوى أعضاء الهيئات التشريعية والتمثيلية وكذلك من مستوى منظمة دولية كالأمم المتحدة، تبتغي تحقيق العدالة الدولية بينما لا تَمُتُّ بِصِلَة الى هياكلُها ولا قوانينُها الداخلية، إذ يمكن إرساء التناسبية أمميّا على أساس معايير الديمغرافيا وحجم الاقتصاد ومستوى التطور العلمي والتكنولوجي مثلا. وفي كل الأحوال فالديمقراطية التناسبية ستسهم في قطع الطريق أمام مفسدي الانتخابات من جهلة وراشين ومرتشين، ونافِذين متحَكِّمين، وضِعافٍ خاضعين كَرْهاً أو طوْعاً.
إذ كيف يعقل أن تُترك أبوابُ المؤسسات التمثيلية الشعبية مُشرعة أمام أمثال هؤلاء ليعبثوا بمصائر مواطنيهم ويعيقوا تطوّر ونماء الأوطان؟ ألم يكن ضعف المؤسسات التشريعية بالوطن العربي مثلا وتفشي الجهل والأمية في دواليبها، من أهم أسباب وقوعها في مطبات تاريخية عديدة ليست أقلَّها خطورةً المصادقةُ على اتفاقيات مفروضة وغير متوازنة كبعض الاتفاقيات التجارية ، وأخرى مهينة و'انشطارية' لا تكف عن الانفجار و'توليد' التّبِعات كاتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة ؟ ألم تسهم الرداءة العلمية والفكرية لتلك المؤسسات في التغاضي عن الارتهان للغرب والارتماء في أحضانه ضدا على مصالح الشعوب وإرادتها وقضيتها المركزية؟
وفي المقابل ألم تكن جودة و قوة المؤسسات التشريعية الأوروبية والأمريكية من أهم عوامل تقدمها وتوحُّدِها ضدا على التباينات الصارخة والتناحر السابق بينها؟ في واقع الأمر مَن يتأملْ 'الديمقراطيات' العربية التي شاخت دون أن تغادر المهد، يجِدْ أنَّ التمييز السلبي على أساس طائفي أو عشائري أو حتى عائلي هو السائدُ رغم كل المساحيق التي لاتُخفي، إلّا كَمَا الغربالُ الشمسَ ، أنانيةً مُخزية و تعصُّبا مَقيتاً، هذا إذا تعذّر الإكراه أو الشراء المباشر للذِّمم، ما دامت لأصوات العالِم والجاهل والناضج والقاصر والرّاشد والسّفيه نفس القيمة ونفس القدر من الأهمية لدى الترشّح أو الانتخاب! فإذا كان لا بدّ من التمييز بين المرشحين قصد اختيار الممثلين، لاستحالة تمثيل الجميع للجميع،فليكن ذلك وفق معاييرِ استحقاقٍ منطقية وعلمية، كالاختيار على أساس معايير النضج والكفاءة العلمية والقدرة على تحمل المسؤولية، والذي ليس إلا تمييزا محمودا معمولا به دون تحفظ من أيٍّ كان، في اختيار الإداريين والأمنيين والقضاة وكل من له علاقة بالسلطتين التنفيذية والقضائية، فما المانع من العمل به في المجال التشريعي الذي يعتبر قطب الرحى في العملية الديمقراطية ؟ بل لماذا تُستثْنَى لدينا نحن العرب بالذات السلطةُ التشريعية عمْدا منذ نشأة الأنظمة العربية الحديثة، من اعتماد معايير استحقاق علمية وموضوعية في اختيار القائمين عليها؟ لقد نتجت عن 'إشراع' باب المجال التشريعي والتمثيلي 'شرْعنةٌ' رسمية وشعبية حقيقية وتمجيد غير مفهوم للرداءة والمحسوبية والارتزاق ، فغَزتِ البرلماناتِ العربيةَ جحافلُ الجَهَلَة والمرتزقة والمترحلين بين أحزاب معتلة بنفس علل الأنظمة، في نقض صارخ لقواعد التعاقد السياسي مع الناخبين، فصار شَخيرهم يملأ جنبات البرلمانات العربية إذا التزموا بالحضور، فأحدثوا فوضى القوانين وضعف واختلال التشريعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية التي لا قبل لهم بها. وحتى حين يتم الانتباه إلى خطورة الأضرار التي يلحقها الجهلة بالمجال التشريعي ويقع تقنين الترشح يتم ذلك لرفع العتب والحرج حيث يُشْترط حصول المرشحين لرئاسة المجالس على الشهادة الابتدائية التي يحصل عليها أطفال في سن العاشرة، وكأن المطلوب من البرلماني أو عضو المجلس الجماعي هو فقط القدرة على كتابة اسمه وتهجي ما يُحرِّر له غيرُه من خطابات رنّانة جوفاء، لا أن يكون على قدر من النضج الفكري والكفاءة العلمية والقدرة على تحمّل المسؤولية، ليكون خير ممثل لناخبيه، مدافعا عن حقوقهم ومعبرا عن همومهم وتطلعاتهم. أما عن مسوغات اقتراح المعايير السالفة الذكر كأساس لسُلَّم تقييم أصوات الناخبين وتقنين الترشح قبل الاقتراع، فيمكن إجمالها فيما يلي:
- بالنسبة لمعيار النضج فهو معيار معمول به حاليا ولا يحتاج إلا إلى مزيد من التفصيل باعتبار مؤشر السن كأن تمنح نقطة لمن تتراوح أعمارهم بين 18و25 سنة مثلا ونقطتان لمن بين 25و40 سنة وثلاث لمن تعدوا أو تعدّين الأربعين.
- وبالنسبة لمعيار الكفاءة العلمية الذي يستحسن أن يمنح الوزن الأكبر وبالتالي العدد الأكبر من النقط، فيمكن اعتماد مؤشّريْ المستوى الدراسي والإنتاج العلمي أو الفكري أو الثقافي كمؤشرين دالَّيْن على تحققه لدى الناخب أو المرشح، ومن ثم تمنح نقاط معينة لكل شهادة دراسية وأخرى للابتكارات العلمية والإنتاجات الفكرية والثقافية بعد ثبوت قيمتها وفق شروط.
- أما فيما يتعلق بمعيار القدرة على تحمل المسؤولية فيمكن أن يرصد له مؤشران دالان على تحققه، هما مؤشر الوضعية العائلية لتمنح نقاط معينة للمتزوجين ونقاط أقل للعزاب الذين لم يخبروا بعد المسؤولية الاجتماعية، ومؤشر الوضعية المهنية التي غالبا ما تعتبر من دلالات القدرة على تحمل المسؤولية. وأخيرا وليس آخرا لابدّ من الإشارة إلى أن الفوائد المباشرة وغير المباشرة للديمقراطية التناسبية متعددة وتتراوح بين تطوير الكفاءة التشريعية للأنظمة ورد الاعتبار للكفاءة والاستحقاق وتشجيع العلم والمعرفة، مرورا بالحد من تجاوزات السلطتين التنفيذية والقضائية اللتين لا تعدمان مع الأسف أطرا تحترف الالتواء على التشريعات وتعطيلها أو إفراغها من مضامينها في غياب نضج وكفاءة أعضاء المؤسسات التشريعية والتمثيلية.
عبد اللطيف البوزيدي- كاتب من المغرب- القدس العربي اللندنية

'رويترز' والمستنقع السياسي المصري
25/3/2010
قراءة تحليلية لتقرير 'رويترز' حول حالة بورصة الرئاسة في مصر.
ربما حفاظا على 'مصداقيتها' لم تشأ وكالة 'رويترز' أن تُفوِّت الإدلاء بدلوها حول مسألة الرئاسة أو انتقال السلطة التي طفت على الساحة السياسية المصرية منذ أن بدأت المساحيق التجميلية والديبلوماسية تعجز عن إخفاء ملامح الشيخوخة المتقدمة التي وصل إليها الرئيس حسني مبارك. لكننا ندرك أن وكالة 'رويترز' للأنباء عنصرٌ أساسي في الأوركسترا (الجوقة) الإعلامية الغربية التي تحضِّر الرأي العام العالمي لأي تدخل سياسي أو عسكري غربي وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط. كأن 'رويترز' تَطَّلِعُ مسْبقا على أفكار ساسة الغرب أو ربما يُطْلعونها على مفكراتهم أيضا، من يدري؟ أو كأنها تقرأ طالع شعوب المنطقة، فهي غالبا ما تكون سبّاقة إلى التنبُّؤ بالأحداث لكنها تعرض تنبُّؤاتها بأسلوب مُدارٍ يُناغِم بين التهوين والتهويل حسب مواقف الغرب وانتظاراته، إذ وجدناها تهوِّل فجأة أحداث الصومال وخطر المليشيات الجهادية عليه وعلى ما حوله، مع أن الوضع لم يكن بأسوأ مما كان عليه دائما، ولم يكد ينقضي شهر حتى أُعْلِن عن بدء التدخل الأمريكي الجديد في الصومال. وهاهي ذي 'رويترز' تسعى اليوم إلى تهوين مسألة عويصة ومصيرية كمسألة الرئاسة في مصر، فبالنسبة إليها فإن 'سكون الوضع السياسي في مصر ظل يعتبر لفترة طويلة ميزة في منطقة مضطربة'، لكنها لم تُحدّد لمَنْ كان ذلك السكون 'ميزة' وإن كان يفهم من السياق فيما بعد أنه 'ميزة للمستثمرين'. فمتى كان السكون السياسي ميزة لأي بلد؟ وما الأهمّ، أن يكون في وضع البلد ميزةٌ لسياساته واقتصاده ومواطنيه أم أن يكون في وضعه ميزة للمستثمرين؟ أشك في أنّ 'رويترز' كانت ستُكلّف نفسها عناء تقريرها الأخير(القدس العربي عدد 6453 بتاريخ 09-03-2010 ص3) لو لم يتعلّق الأمر بعملية جراحية بالغرب لرئيس طاعن في السن وهي تعلم أن المنايا تخبط خبط عشواء خصوصا حين يتعلّق الأمر بقادة عربٍ بمستشفيات غربية (الهواري بومدين بالاتحاد السوفييتي سابقا، والملك حسين بولاية مينيسوتا الأمريكية، ياسر عرفات بفرنسا...)، أو بعبارة أخرى لولا عملية الرئيس مبارك ما كان الأمر يستدعي ذِكْرَ مصر، فوضع السكون ُممَيَّزٌ ومُرْضٍ وإن كان على حساب تقدم ورفاهية المصريين وحقوقهم المدنية والسياسية حتى لا نبالغ ونقول على حساب قضيتهم العربية المركزية.وعلى ذكر العملية الجراحية للرئيس مبارك، يمكن ملاحظة كيف أنَّ 'رويترز' ومثيلاتها تلعب دور الطبيب المختص في التخدير قُبيْل كل عملية 'جراحية' ينوي الغرب إجراءها لعضو 'مُصاب' من أعضاء كونه المُعَوْلَمِ الرّحبِ. وعلاوة على اعتبارها السكونَ ميزة، لم تكتفِ 'رويترز' بجرد المرشحين المحتملين لخلافة الرئيس مبارك، بل صنّفتهم ورتّبتهم وطفقت تعدِّد محاسن البعض وتركز على مساوئ البعض الآخر، فبالنسبة إليها يأتي جمال مبارك على رأس قائمة المرشحين المحتملين، مع أنْ لا أحد يجهل أنه الأكثر مثارا للجدل وأنه حتى قبل ترشُّحه قد جَمَع منَ المعارضين ما يكفي لإنجاح 'شعبولا' لو ترشّح ضدَّه، مع احترامي للأخير كفنان شعبي ملتزم. أما معيار 'رويترز' في وضع ابن الرئيس على رأس القائمة فهي طبعا (ولا ندري بأي صفة!) 'إجراءاتُه' الاقتصادية التي 'نالت استحسان المستثمرين'، سيقول قائل: عُدْنا إلى المستثمرين؟! فأُذكّره أنّ المستثمرين وسهولةَ توغُّلِهم (وتغوُّلهم) ومقدارَ ارتواءِ جشعِهم كانت دائما هي مقاييسَ الغرب الحقيقية لتحديد مدى رضاهُ على السُّكون-الميْزةِ لهذا البلد أو ذاك. يأتي في المرتبة الثانية على قائمة 'رويترز' عمر سليمان مدير المخابرات العامة الذي لا مساوئ له كسابقه في القائمة، ومن أهم 'محاسنه' دوره كوسيط في عملية السلام رغم أنها كما الجميعُ يرى تسيرُ دَوْماً إلى 'الوَرَا' على هوى إسرائيل، ومن محاسن عمر سليمان أيضا ودائما حسب 'رويترز': 'كونه مساعدا مقرّباً من الرئيس'، إلى هنا لم أعد أحتمل! لم يكن يخطر على بالٍ إلى عهدٍ قريبٍ أن تعمد إحدى أشهر وكالات الأنباء بالغرب المتحضر الديمقراطي إلى جعل 'القرب من الرئيس' مسوّغا شرعيا لتولي الرئاسة أو 'صنع الرئيس الجديد' على حد تعبيرها، بعيدا عن خيار الشعب، ذلك الشعب عينه الذي تقول 'رويترز': 'إنّ عمر سليمان لا يتحدث إليه كثيرا'!
أما محمد البرادعي فقد شككت 'رويترز' في إمكانية ترشحه للرئاسة أصلا ما دام قد وضع شروطا لا تُرَجِّحُ الاستجابةَ لها من لدن النظام، والأغرب أنها تجد في عدم الاستجابة لمطالب البرادعي أمرا عاديا لا يحتاج إلى تعليق أو مجرد جملة اعتراضية، وهي التي ذكرت في تقريرها نفسِه أنَّ من مطالبه ضماناتٍ لنزاهة الانتخابات! لم تكتفِ 'رويترز' بتعداد وترتيب شخصيات ذكرتها بالاسم كجمال وسليمان والبرادعي ونور ونظيف وإنما خلطت معها فئات وهيئات كاملة كالعسكريين والإخوان المسلمين وأحزاب المعارضة، فصارت كمن تنبّأ بـ'الجميع' وبِـ'لا أحد'، فقد استنفذت باحتمالاتها كل المصريين!
من كل هذه المنطلقات لا أعتقد أن وسائل الإعلام الغربية تستحق فعلا كل تلك الهالة التي طالما أثيرت حول 'مصداقيتها' و'مهنيتها'. فالمهنية وحدها لا تصنع المصداقية ما لم تقترنْ بالنّزاهة وتجنُّب الكيل بمقاييس مزدوجة، وهو ما صارت تفتقد إليه تباعا معظم وسائل الإعلام الغربية التي تحوّلت منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إلى منابر رسمية لعرض وجهات نظر ساسة الغرب لا غير، على غرار المنابر الرسمية للحكومات العربية. ماذا عنّا نحن العربَ؟ أين كنا سنلجأ لِنلْتمِسَ أنباءً؟ لقد كنّا لنبتلعَ أية أخبارٍ أو تحليلاتٍ تُقدَّمُ إلينا لو لم تكن هناك بعض الاستثناءات في المشهد الإعلامي العربي! كنا سنختار بين وسائل الإعلام الغربية ونظيرتها الرسمية العربية، وكنا سنصير كمن يتخيّر بين القنافذ باحثاً عن الأمْلس.
عبد اللطيف البوزيدي -كاتب من المغرب-القدس العربي اللندنية

شمس الممانعة تسطع من جديد! 15/3/2010

تَردَّد كثيرا على الساحة السياسية العربية في العقد الأخير مصطلحا 'الاعتدال' و'الممانعة' اللذين استُحْدِثا تلبية لضرورة اصطلاحية، ولملء فراغ دلالي ناجم عن بروز وضع جديد غير مسبوق، لم تعد فيه مصطلحات 'الكفاح' و 'المقاومة' ذات صيت وصارت تسمياتٌ أخرى مثل 'دول الطوق' أو 'جبهة التصدي' فارغةً من أي معنىً. مصطلحا الاعتدال والممانعة ليسا رسميين في القاموس السياسي للأنظمة العربية ، غير أن لهما صدى وانتشارا واسعا في الأوساط الصحافية والشعبية، مع تفرُّد مصطلح 'الاعتدال' بالظهور بين الفينة والأخرى في القاموس السياسي الغربي حين يُراد الإشارة إلى الأنظمة العربية المَرْضِيّ عنها. فما أصل تسميتَيْ 'الاعتدال'و'الممانعة' ؟ وما أسباب أُفُول نجم معسكر الاعتدال، بل ووقوعه بين طرفي كمّاشة؟ وفي المقابل ما الذي قوّى شوكة معسكر الممانعة وجعل شمسَه تسطع من جديد؟
فيما يخص أصل تسميتي 'الاعتدال' و'الممانعة' تجدر العودة إلى ما يفوق الأربعة عقود إلى الوراء، لتقديم لمحة مقتضبة عن الظروف التي هيّأت لانقسام العرب إلى معسكرين فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت الهزيمة السريعة والبيِّنة التي مُنِيَ بها العرب في حرب 67 والتي سمّوْها 'نكسة' ربما لتخفيف هول الصدمة،(كانت) أهونَ عليهم ممّا صاروا عليه بعد اتفاقية كامب ديفيد السيئة الذكر، فقد كانوا على الأقل متّفقين من المحيط إلى الخليج أنَّ إسرائيل كيان دخيل غاصب وعدو مشترك وجب اقتلاعه إن عاجلا أو آجلا، وكان بإمكان الشعوب العربية أن تتظاهر وتُزبد وتتوعّد وتُمنّي النفسَ بالتحرّر والوحدة، وكل ذلك بمباركة وتمويل ومشاركة من الأنظمة يوم كانت الشعوب وإياها سمناً على عسلٍ، على الأقل فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية...وكان أن زاد العربَ ثقةً نصفُ-انتصار حققوه جماعيا إلى حدّ ما في حرب أكتوبر 73، فازدادت رغبة الشعوب في مواصلة التصدّي حتى 'تحرير فلسطين، كل فلسطين' وهي عبارة طالما سمعناها وردّدناها صغارا مع إذاعة 'صوت فلسطين' أيام كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحظى بساعاتِ بثٍّ يوميةٍ ببعض الإذاعات العربية.شعار 'تحرير فلسطين، كل فلسطين' ذلك، تآكل مع الزمن كما تتآكل الشعارات العربية بالجملة، فقد صار بالنسبة للبعض ضربا من الخيال، وصار بالنسبة لآخرين مرادفا للرغبة في إبادة اليهود وبالتالي معاداةً للسامية، تلك التهمة التي صارت مثل بعض الملابس الجاهزة ملائمةً لجميع المَقاسات. كان حماسُ العرب إذن في ذُروته والتعبئةُ متواصلةً بعد الحرب في الفترة التي سبقت معاهدة كامب ديفيد، وبدا حلم استعادة الأرض والمجد ممكنا، بل ظُنَّ أن الوحدةَ نفسَها قد صارت قابَ مُؤتمرَيْن أو أدنى! لكن شيئا ما حدث، شيءٌ أخْمد حماس الشعوب العربية وقلَب تفاؤلَها حيرةً وغمّاً مُقيماً، فقد لمع النظام المصري مجددا لكن سلبيا هذه المرة، إذ لم يرَ في ما نظرت إليه الشعوب العربية على أنه انتصار في حرب رمضان، سوى دليلا إضافيا على 'قوة' إسرائيل وإصرار الغرب على مساندتها مهما كلفه ذلك، ودليلا على محدودية قدرة مصر على المواجهة ولو بدعم عربي. لقد تبيّن للنظام المصري أو لنقُلْ تهيّأ له ضعفُ مصرَ الاستراتيجيُ والاقتصاديُ أيضا رغم مخزونها البشري الضخم الذي كان يمكن أن يكون عنصر قوة لوْ وجد نظاما قويا يُقيم للسّيادة وزْناً (على غرار النظام التركي الحالي مثلا). رضخ النظام المصري إذن للضغوط والإغراءات، فالعصا والجزرة كانتا دائما حتى قبل ذلك الحين وإلى يومنا هذا من 'الأدوات' المفضلة للسياسات الغربية تجاه العرب والمسلمين، لكن المرحوم السادات لم يعترف إلا بالإغراءات في خطاب مدوٍّ أمام مجلس الشعب المصري، حين طفق يعدّد منافع اتفاقية كامب ديفيد ويمجِّد مليارات المساعدات والاستثمارات التي قال إنها ستنهمر على مصر والمصريين، والحقيقة أنه مثلُ مَنْ 'رشّهُمْ بالعسل وتَرَكَهم عُرْضةً للذُّباب'. هُنا، وللموضوعية لا بد من الإشارة إلى تقصير بل وتخاذل الدول العربية في دعم مصر خلال فترة ما بعد الحرب، رغم ما بذله شعبُها من تضحيات جِسامٍ، وبالأخص منها الدول العربية النفطية الخليجية والمغاربية، بصناديقها السِّيادية الضّخْمة واستثماراتها التريليونية في الغرب، ذلك الغرب نفسه الذي ترَكتْه ينفرد بمصرَ ويضغط عليها ويغريها بالفتات.
لم تكن معاهدة كامب ديفيد معاهدة سلام كما صُوِّرت بقدر ما تبيَّن لاحقا مع توالي تنازلات وخدمات النظام المصري لإسرائيل، أنها كانت معاهدة 'استسلام' لا تختلف كثيرا في نظري عن معاهدة 'فيرْسايْ' وغيرها من المعاهدات المُذِلّة، المُذيبة لهوية المستسلِمين والسالبة لسيادتهم وكبريائهم، لأنها تجعلهم يُؤدّون فروضَ الطاعةِ خدماتٍ وتسهيلات وحتى إتاوات نقدية أو عينية (كالغاز مثلا)، لِنَقُلْ ببساطة إنّ كامب ديفيد كانت معاهدة استسلام بالتقسيط المريح.
كانت تلك بداية 'الاعتدال العربي' الذي شَكّلت مصرُ نَواتَهُ الصلبة، وما أصْلبَها من نواةٍ في تلك الفترة لما كانت تتمتع به من مكانة ونفوذ في العالم العربي. ورغم فقدانها ريادتها العربية ربما إلى الأبد وخروجها من جامعة الدول العربية ونَقْلِ مقرّ الأخيرة من القاهرة إلى تونس، ظلت مصرُ مُصِرّةً على توسيع معسكر الاعتدال، فساهمت بفعالية في جرّ جزءٍ من أصحاب القضية الرئيسيين إلى ملهاة المفاوضات، وما لبث أن توسّع المعسكر بتوقيع الأردن اتفاقية 'وادي عربة' وتحقق بذلك لإسرائيل هدفها المتمثل في تطويق وعزل الضفة الغربية (وهي ماضية اليوم في تقويض وصاية الأردن على الأماكن المقدسة)، بعد أن تمّ لها عزل وتطويق قطاع غزة إثر تحييد (بل تجنيد) مصر لهذا الغرض، وهي صاحبة الوصاية الإدارية على القطاع. ومع ذلك لم تبرز تسمية 'الاعتدال' إلاّ حينما انضمت دول عربية أخرى إلى معسكر مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. لم تُوَقِّع الدولُ حديــــثةُ الانضــمام معاهداتٍ ولا اتفاقياتٍ مع إسرائيل، لكنها استعاضت عنها بقنوات أخرى أكثر احتشاماً ما لبثت أن ألغتها كالمكتب التجاري لإسرائيل في قطر ومكتب اتصالها في المغرب والأنكى من ذلك سفارتها بموريتانيا، أما المملكة العربية السعودية فقد وجدت لها مخرجا من الضغوط الغربية للتطبيع مع إسرائيل بذريعة تشجيعها على السلام، وجاءت بفكرة مبادرة السلام العربية التي قَبِلَها العربُ على مضض، معتدلين وممانعين، مع تحفّظ خجول من لبنان البلد المستضيف لقمة 2002، ومع أنّ إسرائيل رفضت المبادرة بما فيها من تنازلات وقالت فيها مؤخرا أنها وصفة لتدمير إسرائيل، فإنّ العرب أصرّوا على إبقائها مطروحة مما أطلق يد إسرائيل في المنطقة ومكّنها من الاستفراد سنوات بعد ذلك بآخر فلول المقاومة بلبنان وغزة، إذاك فقط تركّز المدلول القدحي لتسمية 'الاعتدال' وبرز في المقابل المدلول الإيجابي إن لم نَقُل 'التَّمجيدي' لتسمية 'الممانعة'، والعكس صحيح طبعا بحسب انتماء المستعمِل لهذا المعسكر أو ذاك.
عبد اللطيف البوزيدي- كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

يوم العجائب على قناة 'الجزيرة'
2/27/2010


كلما عدت إلى مشاهدة قناة 'الجزيرة' بعد هجرها قسرا أسابيع لفائدة الكتابة أو الالتزامات المهنية، راودني كابوس رهيب أحمد الله أنه مجرد تصور افتراضي لما كان يمكن أن يحدث للأمة العربية بقليل من سوء حظها العاثر، لكنه لم يحدث لحسن حظها النادر. من خصوصيات هذا الكابوس المراودة في 'اليقظة'، ولا شك أنه زار معظم مشاهدي 'الجزيرة' وقراء 'القدس العربي'
هو كابوس يتلخص في السؤال التالي: 'ما الذي كان سيكون عليه حال ومآل الشعوب العربية بدون هاتين الوسيلتين الإعلاميتين اللتين اتسع انتشارهما واخترقت شهرتهما حدود الوطن العربي؟ أي خراب وشتات كان سيضاعفه للأمة أعداؤها وأية جرائمَ إضافيةٍ كان يمكن أن يقترفها ضدها الصهاينةُ ورهائنهم الغربيون لو لم تكن مسلّطةً عليهم الأضواء الكاشفة للجزيرة والقدس العربي، كفلتتين من فلتات الزمن العربي الرديء، لترصد ألاعيبهم ودسائسهم؟ السر في تميز هاتين الوسيلتين بالذات قد لا يكمن في التشبع بالروح القومية أو النزعة الإنسانية فحسب وإنما أيضا في التجرد والحياد والمهنية العالية.مثل كل مرة لم تذهب سدىً عودتي لمشاهدة الجزيرة مع برنامج 'الاتجاه المعاكس' الحافل بالمفاجآت، حلقة هذا الأسبوع كانت مغاربية خالصة وخلالها استضاف فيصل القاسم نائبَ رئيس البرلمان الجزائري الأسبق د.محمد جهيد يونسي، وفي الجانب الآخر أحدَ المعارضين الليبيين الذي أفضل نسيان اسمه. بَدا لي لأول وهلة أن موضوع الحلقة غريب نوعا ما، على الأقل بالصيغة التي جاء عليها سؤال استفتاء المشاهدين وهي: ما الذي تفضل؟ الاستعمار أم الأنظمة العربية؟ فهو يخيِّر ضيفيْ البرنامج بين شيئين أحلاهما مرٌّ وقد أشار إلى ذلك د. منصف المرزوقي في مداخلة هاتفية بقوله: 'لا يمكن أن نخيِّر أحداً بين الطاعون والكوليرا'، وهو ما انتبه إليه أيضا الضيف البرلماني الجزائري فحرص على التأكيد منذ البداية أنه لا يدافع عن أنظمة يعلم الجميع أنها مستبدة من أقصاها إلى أقصاها، قبل أن يشن هجوما عنيفا مبرَّرا على الاستعمار وعلى أذنابه، سواء الذين خلَّفهم وراءه أو الذين لحقوا به واحتضنهم.أما المعارض الليبي فلم يكتف بمهاجمة الأنظمة بل استغل الفرصة للتغزُّل بالاستعمار أمام دهشة مستضيفه الذي على ما يبدو لم يكن يتوقع من ضيفه هذا الموقف الشاذّ وهذا الذنب الذي لا يجرؤ على الاعتراف به حتى من سبقوا إلى اقترافه في العراق وغيره، وكم كانت دهشة فيصل القاسم أكبر حين انفجر المعارض الليبي معلنا أنه على استعداد لدخول ليبيا على ظهر دبابة من دبابات العدو! لم يصدق فيصل ما سمعه فطلب من ضيفه تكرار ما صرخ به (مع أنّ 'الأعمى قال خرمها كبير والأطرش سمع رنتها، على رأي أغنية لعاصي حلاني'). أما البرلماني الجزائري فقد أدرك حينها أنه كسب النقاش، فردّد مرّات عدة: 'خلاص، انتهى!'. كان يقصد 'خلاص انتهى النقاش وانتهت الحلقة' ووَدِدْت لو أنه أضاف:'خلاص انتهى عهد المعارضين الشرفاء في الوطن العربي وبدأ عهد عرائس الدبابات، الذين يعلنون الاقتران بالغزاة حتى قبل امتطاء الدبابات'. استماتة المعارض الليبي في الدفاع عن الاستعمار والدعوة العلنية إلى عودته لم تُعادِلْها سوى استماتة السيدة هيلاري كلينتون في تبرير تدخل الولايات المتحدة عبر العالم في شؤون الأنظمة ومصائر الشعوب. كانت الجلسة عامة وعلنية تبثها قناة الجزيرة لملايين المشاهدين، هكذا أرادتها كلينتون ربما لظنِّها أن الأسئلة ستكون على هواها، لكن المتألق عبد الرحيم فقراء والطلاب والطالبات العرب كان لهم رأي آخر، فأحرجوها بأسئلة منطقية تبرز التناقضات الصارخة للسياسة الخارجية الأمريكية وكيلها بمكيالين كلما تعلق الأمر بعرب أو مسلمين. يقول الشاعر واصفا من هو غير واثق ومحرج من مواجهة الجمهور: 'مليء بِبُهْرٍ والْتِفاتٍ وسُعْلةٍ ومَسْحَةِ عُثْنونٍ وفتْلِ الأصابعِ' وكذلك تماما بدت السيدة كلينتون، أمام جيل جديد من الشبان العرب قال عنهم السيد عبد الباري عطوان إنهم 'على درجة كبيرة من الوعي السياسي'.
عجيب أمر الجزيرة و'القدس العربي'، تجتذبان كبار القادة كما يجتذب العسل النمل، لكنه نمل مُجنّحٌ ما يلبث أن يعلق جناحاه، ليرى الجميع كيف يتلعثم ويتلكّأ هؤلاء 'القادة الشجعان' أمام أسئلة وتعليقات صحافيي الجزيرة ومشاهديها (السيدة كلينتون كاتبة الدولة في الشؤون الخارجية الأمريكية نموذجاً) وأمام صحافيي ومعلقي 'القدس العربي' (السيد آيفن لويس كاتب الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط نموذجا). لم ينته مسلسل العجائب على قناة الجزيرة ذلك اليوم بما قيل لكلينتون فأحرجها أو بما صدح به المعارض الليبي، فقد كانت في انتظاري أعجوبة أخرى: مفتي نيجيريا يفتي على الهواء بإباحة قتل العزّل من أنصار جماعة 'بوكوحرام' ولو بالطريقة التي رآها العالم مذهولاً بفضل الجزيرة نفسها. قد يقول قائل إن هذا يؤكد أن فهم الإسلام محرّفٌ لدى بعض الشعوب والقوميات حديثة العهد به، فيرد آخر وهل من فرق بين من طبقوا دون فهم ومن لم يطبقوا وإن فهموا؟ ومع ذلك نرى كيف مرت هذه الفتوى مرور الكرام بينما تقوم الدنيا ولا تقعد حين يفتي الشيخ القرضاوي مثلا بإباحة قتل الغزاة والمحتلين!
عبد اللطيف البوزيدي -كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية

العرب والسلطة: بين التّكليف والتّشريف
21/02/2010

زُيِّن للناس حب المال والسلطة وجُبِل الإنسانُ على حب الشهوات والسعي إليها على مر العصور، غير أنَّ ذلك لا يعني بالضرورة عدم وجود من زهدوا ومن يزهدون في الشهوات وبالأخص منهم أولئك الذين يستنكفون عن السلطة مهما غَزُر عِلمُهم أو عَلا شأنُهم، ويكتفون بدور استشاري يتّخذون من الجوانب الأخلاقية والقيمية منطلقا له. إلى أمثال هؤلاء تحتاج الشعوب والقوميات ليرشدوا أنظمتها وحكامها إلى سبل السلم والتقدم والنماء وبعيدا عن التبعية أو التوسع أو الاعتداء. لكن العكس هو الذي يحصل في الغالب، فلا يكاد يخلو تاريخ أمّةٍ من فصول دموية من الصراع حول السلطة سواء على المستوى القبلي أو القومي، فما الذي يفسر استمرار الجاذبية القوية للسلطة مهما تطوّرت البشرية وتنوّرت وسعت إلى تغيير أساليب القيادة وأنماط الحكم؟ أعتقد أن هناك عوامل ذاتية وأخرى موضوعية يمكن أن تفسر نوعا ما الجاذبية الكبيرة التي تمارسها 'السلطة' على الإنسان، منها العامل الذاتي المتمثل في طموح الإنسان اللامتناهي، هو الذي لم يكفّ أبدا عن رفع سقف التحدي وتخطي عتبات الإنجاز المتميّز، وكذلك العامل الموضوعي ذو الصلة بالارتباط الوثيق بين السلطة من جهة والدوائر المالية ومنابع الثروة ومصادر الإنتاج من جهة أخرى، ولا شك أن هناك عوامل كثيرة تحفظ للسلطة جاذبيتها وإغراءها الذي لا يقاوم إلا ّ في النادر، لكن أهمها على الإطلاق في نظري وأكثرها قدرة على تفسير انجذاب الإنسان للسلطة هو اعتباره إياها تشريفا لا تكليفا.
وللعرب كما لغيرهم من القوميات حكاياتهم الطريفة مع السلطة والساعين إليها، حكايات ما زال مَعِينُها لم ينضب وما زال ذوو السلطة والمسؤولون العرب ينسجون على منوالها، فانجذابهم إلى السلطة ربما يفوق انجذاب غيرهم إليها وإلاّ فكيف نفسر أن أغلب المتمسكين بالسلطة في العالم بل والمتمسكين حتى بالمناصب القيادية الجمعوية والنقابية هم من العرب؟ ولماذا نجد العرب في 'عزّ' تخلُّفِهم سبّاقين إلى 'ابتكار' تحويل الجمهوريات إلى 'جملوكيات' وراثية؟ بل وكيف نفسر فضائح هتك أعراض المستضعفات من لدن بعض المنتسبين إلى 'أصغر سلطة في العالم وأغرَبِها' كونها تحت الاحتلال؟ كيف نفسر هذا وذاك سوى بالانجذاب إلى السلطة أكثر من الغير بكثير؟
إن مسؤولي وشعوب العرب، يعتبرون أكثر من غيرهم السلطةَ تشريفا يُطلق اليد في خيرات البلاد وأعراض العِباد، لا تكليفا تصحبُه مراقبة وتتلوه محاسبة، إذ تنهال على كل من بلغ منصبا، رسائلُ التبريك ووفود المهنِّئين، في حين أنَّ ما يجب أن ينهال على من يتقلد سلطة أو مسؤولية هي رسائلُ المؤازرة والتعزية في راحة باله وساعات نومه التي يُفترَض أنْ يفقدها من فرط ما سيبذله من مجهودات ليكون أهلا للمسؤولية ويؤدّي الأمانة، وما يجب أن يُنْصَب له ليس قاعة حفلات بل 'خيمة عزاء وعمل' يلتقي فيها بوفود المؤازرين ويتلقى النصائح والاقتراحات ووعود المساندة.
وحتى نتجاوز شيئا ما مرحلة تشخيص الظواهر التي ابتُلينا بها عوامَّ ونُخباً، يمكن اقتراح بعض الحلول منها على الخصوص: الشروع في التطبيق الصارم لمبدأ المحاسبة والحد من ظاهرة الإفلات من العقاب التي تكاد تنفرد بها الأنظمة العربية. اعتماد آليات تطبيق ديمقراطية تناسبية من شأنها الرفع من مستوى الهيئات التشريعية لتصير في مستوى فرض الرقابة اللازمة على مختلف السلطات التنفيذية والقضائية وحتى الرئاسية (راجع للكاتب مقال:نحو ديمقراطية تناسبية بالوطن العربي 'القدس العربي' عدد6408 في 15/1/2010 ص18). حثّ النخب والمؤسسات على اعتماد مبدأ 'نحن لا نولّي السّلطة مَنْ يطلُبُها'، فعلى النخب ألاّ تسعى في طلب السّلطة بكل ما أوتيت من علم ونفوذ وأن تترك أمرَ ترشيحِها واختيارِها لغيرها من أشخاص ومؤسسات، وتترفّع عن اللهاث خلف التشريف، مع البقاء على استعداد للتكليف. عبد اللطيف البوزيدي-كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية
المصدر : القدس العربي
الحرب الكروية العربية الأولى: هل انتهت فعلا؟
18/02/2010
أن يعود السفير المصري إلى الجزائر ويُقْبَر موضوع الحرب الكروية العربية الأولى بنفس السرعة التي اندلعت بها تلك الحرب وألحقت من الخسائر المعنوية بالشعبين المصري والجزائري ما لم تُلحقه حروب حقيقية خاضاها. لقد كانت بحق حربا معنوية ونفسية هي الأولى من نوعها عربيا إن لم يكن عالميا، وأغلب الظن أنها لن تكون الأخيرة، صحيح أنها انتهت بعد 'معارك طاحنة'لم يبخل فيها الطرفان بالتجييش والعتاد وامتدت رقعتها إلى أربعة بلدان إفريقية، وإذا استثنينا بعض الجرحى فقد عاد الجميع 'إلى قواعدهم' سالمين غانمين، لكن عدم معالجة الأسباب الحقيقية للحرب الكروية العربية الأولى يترك الباب مفتوحا على مصراعيه 'لاندلاع' حرب ثانية قد لا تكون كروية فقط لا قدَّر الله!لا أيها السادة، يا من تسببتم عن عمد في المهزلة، لا يمكن أن تُقْبِروا الموضوعَ هكذا بكل بساطة، فهناك علاقة أفسدتموها بين بلدين كانا إلى الأمس القريب متضامنين، ورابطة كسرتموها بين شعبين ظلا لعقود حميمين، لا يمكن أن تنجُوا من المحاسبة ولا أن يُتْرك ما أفسدتم دون إصلاح، فمصر والجزائر من دعائم الوحدة العربية المستقبلية مهما تملَّص منها نظاما البلدين ورَكَنا إلى القُطرية المُقزِّمة والتّشرذم المُمنهَج.
لا أحد يمكن أن ينكر جاذبية كرة القدم ولا مقدار المتعة والتسلية التي تجلبها ممارستها ومتابعة مبارياتها ونتائجها، لذا لم نكن نلوم شعبي مصر والجزائر على وقوعهما ضحيتين للجرعة الزائدة من الشغف الكروي، ولم نكن لنستهجن الفورة التي ألَمَّت بهما.
ولم نكن لنظُنَّ بأُخوّتهما وعروبتهما الظّنون لو لم يسْطُ نظاما البلدين على الفرجة والتنافس النزيه، فهما على شاكلة بعضهما جالسان على برميلي بارود ومتلهفان لكل ما يمكن أن يُلمِّع صورتيهما الباهتتين، حتى قيل عنهما ألّا مشروعَ مستقبليا لديهما سوى كرة القدم ، أو بتعبير أدقّ 'التطور والتقدم والهيمنة الكروية في المحافل القارّية والدولية''لهذين النظامين وغيرهما يجب أن يُقال: 'أفلحتم إن صدقتم'، فإذا كان مشروعهم هو تطويركرة القدم والرياضة عموما فليكن، ولكن يجب أن يعلموا أنّ الأمر ليس هيّنا ويتطلب أكثر من مجرد انتظار بزوغ نجوم الكرة وألعاب القوى لاستقبالهم واعتبار مجهوداتهم الشخصية من إنجازات الوزارات وفتوحات االحكومات، ليُهمَلوا من جديد ويتركوا لمصائرهم، فالأبطال العرب الذين تألّقوا عالميا بمجهود شخصي ودون دعم يكادون يشكلون القاعدة (عويطة، مرسلي، شعاع، بولمرقة، العيناوي، الملولي، غريب، المتوكل...ومئات محترفي كرة القدم بأوروبا).
إن تطوير الرياضة وتحصيل النتائج بانتظام يتطلب بنيات تحتية ومنشآت مهمة، ويتطلب قبل ذلك تطوير النظام التربوي والرفع من مستوى عيش السكان.. ليت مشروع الدول العربية هو فعلا تطوير الرياضة فمن شأن ذلك تطوير جميع الميادين الأخرى أولا، فليس صدفة أبدا أن تكون أكثر الدول تألقا في الرياضات وأكثرها تتويجا هي نفسها أكثر الدول تقدما علميا وتربويا واقتصاديا. وللرياضيين العرب وللجمهور الرياضي العربي يجب أن يقال: 'رُبَّ ضارة نافعة'! لا بأس في أن يكونوا شغوفين بكرة القدم والرياضات الأخرى، فلا أحد قال إن الرياضة مَضْيَعَةٌ للوقت ولا أحد ينكر فوائدها، لكن ما يجب ألّا يفوتهم هو الاستفادة الدائمة من العِبَر التي تزخر بها، نعم في كرة القدم أيضا عبر لمن يعتبر، فالانتصار على غرار التقدم والنماء مؤشرٌ على سلامة النهج، والحفاظ على الانتصار يتطلب الاستمرارية والانتظام في العطاء وعدم التراخي أو الوقوع في الغرور، والخسارة كما التقهقر والتخلّف مؤشرٌ على أعطاب أو اختلالات وجب إصلاحها، وتفادي الخسارة مستقبلا يستلزم الوقوف على أسبابها وعلى مكامن الخلل. وفي نهج حكام المباريات والمنافسات عبرة أيضا، فالحَكَمُ على غرار الحاكم أو المسؤول، إذا كان شرعيا ومقبولا وطبق القوانين بنزاهة ولباقة، استطاع إدارة المباراة بكفاءة ليترك مكانه طوعا لحكم آخر في مباراة أخرى ربما على أرضية نفس 'الملعب'، وإذا تصرّف عكس ذلك على غرار بعض حُكّام الأنظمة، يصير بطلا بلا منازع، لكنه بطل شقيّ مذموم يُطْبِق على أنفاس الجميع ويثير حنقهم فلا يلبثون أن يُؤْذوه بعد أن ييأسوا من إمكانية إتمام 'المباراة' تحت إمرته. ومن يطلق العنان لمخيلته يجدْ من العبر في الرياضة ما يكفي لـ'ترييض' السياسة بالنزاهة والتنافس النزيه، بدل 'تسييس' الرياضة بالإثارة والتضخيم.
عبد اللطيف البوزيدي-كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية