25/3/2010 |
قراءة تحليلية لتقرير 'رويترز' حول حالة بورصة الرئاسة في مصر. ربما حفاظا على 'مصداقيتها' لم تشأ وكالة 'رويترز' أن تُفوِّت الإدلاء بدلوها حول مسألة الرئاسة أو انتقال السلطة التي طفت على الساحة السياسية المصرية منذ أن بدأت المساحيق التجميلية والديبلوماسية تعجز عن إخفاء ملامح الشيخوخة المتقدمة التي وصل إليها الرئيس حسني مبارك. لكننا ندرك أن وكالة 'رويترز' للأنباء عنصرٌ أساسي في الأوركسترا (الجوقة) الإعلامية الغربية التي تحضِّر الرأي العام العالمي لأي تدخل سياسي أو عسكري غربي وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط. كأن 'رويترز' تَطَّلِعُ مسْبقا على أفكار ساسة الغرب أو ربما يُطْلعونها على مفكراتهم أيضا، من يدري؟ أو كأنها تقرأ طالع شعوب المنطقة، فهي غالبا ما تكون سبّاقة إلى التنبُّؤ بالأحداث لكنها تعرض تنبُّؤاتها بأسلوب مُدارٍ يُناغِم بين التهوين والتهويل حسب مواقف الغرب وانتظاراته، إذ وجدناها تهوِّل فجأة أحداث الصومال وخطر المليشيات الجهادية عليه وعلى ما حوله، مع أن الوضع لم يكن بأسوأ مما كان عليه دائما، ولم يكد ينقضي شهر حتى أُعْلِن عن بدء التدخل الأمريكي الجديد في الصومال. وهاهي ذي 'رويترز' تسعى اليوم إلى تهوين مسألة عويصة ومصيرية كمسألة الرئاسة في مصر، فبالنسبة إليها فإن 'سكون الوضع السياسي في مصر ظل يعتبر لفترة طويلة ميزة في منطقة مضطربة'، لكنها لم تُحدّد لمَنْ كان ذلك السكون 'ميزة' وإن كان يفهم من السياق فيما بعد أنه 'ميزة للمستثمرين'. فمتى كان السكون السياسي ميزة لأي بلد؟ وما الأهمّ، أن يكون في وضع البلد ميزةٌ لسياساته واقتصاده ومواطنيه أم أن يكون في وضعه ميزة للمستثمرين؟ أشك في أنّ 'رويترز' كانت ستُكلّف نفسها عناء تقريرها الأخير(القدس العربي عدد 6453 بتاريخ 09-03-2010 ص3) لو لم يتعلّق الأمر بعملية جراحية بالغرب لرئيس طاعن في السن وهي تعلم أن المنايا تخبط خبط عشواء خصوصا حين يتعلّق الأمر بقادة عربٍ بمستشفيات غربية (الهواري بومدين بالاتحاد السوفييتي سابقا، والملك حسين بولاية مينيسوتا الأمريكية، ياسر عرفات بفرنسا...)، أو بعبارة أخرى لولا عملية الرئيس مبارك ما كان الأمر يستدعي ذِكْرَ مصر، فوضع السكون ُممَيَّزٌ ومُرْضٍ وإن كان على حساب تقدم ورفاهية المصريين وحقوقهم المدنية والسياسية حتى لا نبالغ ونقول على حساب قضيتهم العربية المركزية.وعلى ذكر العملية الجراحية للرئيس مبارك، يمكن ملاحظة كيف أنَّ 'رويترز' ومثيلاتها تلعب دور الطبيب المختص في التخدير قُبيْل كل عملية 'جراحية' ينوي الغرب إجراءها لعضو 'مُصاب' من أعضاء كونه المُعَوْلَمِ الرّحبِ. وعلاوة على اعتبارها السكونَ ميزة، لم تكتفِ 'رويترز' بجرد المرشحين المحتملين لخلافة الرئيس مبارك، بل صنّفتهم ورتّبتهم وطفقت تعدِّد محاسن البعض وتركز على مساوئ البعض الآخر، فبالنسبة إليها يأتي جمال مبارك على رأس قائمة المرشحين المحتملين، مع أنْ لا أحد يجهل أنه الأكثر مثارا للجدل وأنه حتى قبل ترشُّحه قد جَمَع منَ المعارضين ما يكفي لإنجاح 'شعبولا' لو ترشّح ضدَّه، مع احترامي للأخير كفنان شعبي ملتزم. أما معيار 'رويترز' في وضع ابن الرئيس على رأس القائمة فهي طبعا (ولا ندري بأي صفة!) 'إجراءاتُه' الاقتصادية التي 'نالت استحسان المستثمرين'، سيقول قائل: عُدْنا إلى المستثمرين؟! فأُذكّره أنّ المستثمرين وسهولةَ توغُّلِهم (وتغوُّلهم) ومقدارَ ارتواءِ جشعِهم كانت دائما هي مقاييسَ الغرب الحقيقية لتحديد مدى رضاهُ على السُّكون-الميْزةِ لهذا البلد أو ذاك. يأتي في المرتبة الثانية على قائمة 'رويترز' عمر سليمان مدير المخابرات العامة الذي لا مساوئ له كسابقه في القائمة، ومن أهم 'محاسنه' دوره كوسيط في عملية السلام رغم أنها كما الجميعُ يرى تسيرُ دَوْماً إلى 'الوَرَا' على هوى إسرائيل، ومن محاسن عمر سليمان أيضا ودائما حسب 'رويترز': 'كونه مساعدا مقرّباً من الرئيس'، إلى هنا لم أعد أحتمل! لم يكن يخطر على بالٍ إلى عهدٍ قريبٍ أن تعمد إحدى أشهر وكالات الأنباء بالغرب المتحضر الديمقراطي إلى جعل 'القرب من الرئيس' مسوّغا شرعيا لتولي الرئاسة أو 'صنع الرئيس الجديد' على حد تعبيرها، بعيدا عن خيار الشعب، ذلك الشعب عينه الذي تقول 'رويترز': 'إنّ عمر سليمان لا يتحدث إليه كثيرا'! أما محمد البرادعي فقد شككت 'رويترز' في إمكانية ترشحه للرئاسة أصلا ما دام قد وضع شروطا لا تُرَجِّحُ الاستجابةَ لها من لدن النظام، والأغرب أنها تجد في عدم الاستجابة لمطالب البرادعي أمرا عاديا لا يحتاج إلى تعليق أو مجرد جملة اعتراضية، وهي التي ذكرت في تقريرها نفسِه أنَّ من مطالبه ضماناتٍ لنزاهة الانتخابات! لم تكتفِ 'رويترز' بتعداد وترتيب شخصيات ذكرتها بالاسم كجمال وسليمان والبرادعي ونور ونظيف وإنما خلطت معها فئات وهيئات كاملة كالعسكريين والإخوان المسلمين وأحزاب المعارضة، فصارت كمن تنبّأ بـ'الجميع' وبِـ'لا أحد'، فقد استنفذت باحتمالاتها كل المصريين! من كل هذه المنطلقات لا أعتقد أن وسائل الإعلام الغربية تستحق فعلا كل تلك الهالة التي طالما أثيرت حول 'مصداقيتها' و'مهنيتها'. فالمهنية وحدها لا تصنع المصداقية ما لم تقترنْ بالنّزاهة وتجنُّب الكيل بمقاييس مزدوجة، وهو ما صارت تفتقد إليه تباعا معظم وسائل الإعلام الغربية التي تحوّلت منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إلى منابر رسمية لعرض وجهات نظر ساسة الغرب لا غير، على غرار المنابر الرسمية للحكومات العربية. ماذا عنّا نحن العربَ؟ أين كنا سنلجأ لِنلْتمِسَ أنباءً؟ لقد كنّا لنبتلعَ أية أخبارٍ أو تحليلاتٍ تُقدَّمُ إلينا لو لم تكن هناك بعض الاستثناءات في المشهد الإعلامي العربي! كنا سنختار بين وسائل الإعلام الغربية ونظيرتها الرسمية العربية، وكنا سنصير كمن يتخيّر بين القنافذ باحثاً عن الأمْلس. عبد اللطيف البوزيدي -كاتب من المغرب-القدس العربي اللندنية |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق