7/20/2010 |
كان الحوار الذي أجرته 'القدس العربي' مع المغني الشعبي المصري 'شعبولا' أول ما استرعى انتباهي وأول ما بادرت إلى قراءته عند تصفحي موقع الجريدة، مع أن كلمة رئيس التحرير كانت حاضرة وتناولت موضوعا من الأهمية بمكان هو موضوع الثورة القرغيزية الحبلى بالعبر والدلالات بالنسبة للشعوب العربية. ضروري أن تُدْرَس وتُحلّل بكل تمحُّصٍ التصريحاتُ الدبلوماسية الرسمية لشخصيات مؤثرة، أو الأحداث المستجدة كالثورة القرغيزية 'المستمرة والمفتوحة'، فهي تمكن من استخلاص العبر والأدلة المنطقية على وجود أو استحكام داء من الأدواء، تماما مثلما استخلصت كلمة رئيس التحرير استنتاجاً لا يخرّ المنطق مفادُه أنه 'يبدو أن المشكلة لم تعد في الحكام العرب وإنما في الشعوب العربية أيضا'. مثل هذه الاستنتاجات تشير إلى الداء وتصف أعراضه الظاهرة منها والخفية لكنها لا تميط اللثام تماما عن أسبابه الحقيقية إلا إذا اقترنت بدراسات من نوع آخر هي غالبا في المتناول ألا وهي الدراسات الاجتماعية لنماذج 'الشخصية العامية' التي تشكّلُ أغلبيةَ الشعوب العربية بسبب ما هو مُتفشٍّ في أوساطها من فقر وأمية وكلّ مكوّنات وبَهارات 'خلطة التخلّف'. ولعل هذا هو ما انتبهت إليه 'القدس العربي' بإجراء حوار مع الفنان 'العامي' شعبولا الذي 'كبّرُوها في دْماغُه' فلم يعد يتوانى عن ركوب المستنقع السياسي المصري (وعلى أعلى المستويات خَلِّي بالَكْ!)، ويتصرف مثل فنانين 'زعماء' آخرين كشهود 'مفهموش حاجة'!. كان الحوار شيّقا لأنه كان مفيدا ومسليا في آن، إذ لم تغادر البسمة محيّاي وأنا أطالعه بشغف، بل إنه جعلني في مقاطع منه أخرق سكون الليل بقهقهات عالية، 'دمّو خفيف بشكل، شعبولّا دا!' قلت في نفسي مرارا وباللهجة المصرية انسجاما مع مقتضى الحال. لم يخب حدسي إذن وكان الحوار مع 'شعبولا' زاخرا بالمعطيات التي تسهّل تحليل شخصية رجل يتماهى فيه الملايين، الرجل الذي يمكن لوحده أن يشكّل عيّنةً تغني الباحثين الاجتماعيين عن عينات بحث مئويةٍ أو ألفيةٍ مُجهِدة ومكلفة، لينوب عن عوامّ وأمّيي الوطن العربي، الرجل الطيب الذي صدّق أنّ كبار البلد يكرهون إسرائيل فكَرِهَها وصمّ الآذان بكُرْهها، ولو علِم أنّهم صاروا يكرهون خصومها لُأحبَّها لِتَوٍّه وصمّ (بردو) الآذان بحبها، إذ يكفي أن يشير عليه بذلك 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد' ليتصل بكاتب كلماته قائلا : ' كَوَّرْ وِهَاتْ أَعطيهُم، مَاجُورْ' . قلت بالحرف في مقال سابق عن جمال مبارك، والشخصية بالشخصية تُذْكر، أنّه 'حتى قبل ترشحه قد جمع من المعارضين ما يكفي لإنجاح 'شعبولا' لو ترشح ضده' وأضفت: 'مع احترامي للأخير كفنان شعبي ملتزم'، لكن فاتني أن أضيف''ملتزم بما ينصحه به 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد، واللي ميقدرش يزعّلهم'، كان حديثي عن ترشح 'شعبولا' ضد جمال مبارك من باب المجاز لكنه تحول بعد أسبوعين فقط إلى واقع بشكل من الأشكال، فـ'شعبولا' ينوي فعلا الترشح، لكن ليس للرئاسة، معاذ الله! فهذه بالذات 'محدّش يقدر يكبّرها في دماغه' لسببين وجيهين، الأول أن 'عقل باله قال له ياكل عيش ويربط الحمار مطرح ما يقول صاحبه' والسبب الثاني بكل بساطة أنه 'لا يريد مثل البرادعي أن يستولي على منصبِ رئيسٍ لِسَّه مشبعش مِنّو'، إنما يريد 'شعبولا' الترشح لمجلس الشعب وبسّ، أضف إلى ذلك، وحتى لا يُساء فهم كلامِه، أنه اشترط على نفسه 'كابن حلالٍ مبتدِئ' أن يترشح بعيدا عن دائرة السيد يوسف بطرس غالي، 'وبعدين الكِبيرْ كِبيرْ، آهْ!' ألم أقل لكم أني 'أخشى' أن يهزِمَ 'شعبولا' جمال في الانتخابات؟ ها هو ذا بنفسه يخشى من نفسه على يوسف 'صاحب الفضل عليه'. وطبعا وحتى لا يساء فهمي، فأنا لا أجادل في حق أي مواطن مصري في 'الترشح' لمجلس الشعب أو حتى 'التحرّش' برئاسة مخوصصة مصون كما فعل البرادعي دون أن 'يخشى أو يختشي'، فشعبولا في النهاية لا يختلف كثيرا (أقصد فكريا) عن نسبة مهمة من البرلمانيين العرب، بل إنه يتفوق على معظمهم في الجهر 'بكُرْهِ إسرائيل' والدعوةِ إلى إزالتها، هذا إذا كان ما يزال على كرهه إياها ولم يتصل به 'أولاد الحلال' ليحذّروه من تهمة معاداة السامية المسلطة على الرقاب هذه الأيام، ولأن هؤلاء 'بيقروا جرايد' فإنهم سيحذرونه من أن الاعتذار لن ينفعه مع إسرائيل، وسيُذكِّرونه بمصير السيد فاروق حسني الذي زحلقته إسرائيل حين كان على وشك انتزاع منصب الأمين العام لمنظمة اليونسكو رغم اعتذاراته، ولم يشفع له لديها كونه 'راجل معروف للدنيا وِمْصاحِبْ الرّؤسا' على غرار السيد البرادعي. هنا قد يقول لي قائل : 'لا ترعب الرجل بإسرائيل أكثر مما هو مرعوب، فقد كان على وشك أن يُعلّقَ من لسانه لو غنى عن البرادعي حين كان ما يزال يظنه من أقارب الرئيس!' صحيح أن الرجل كاد يفقد لسانه مصدر رزقه فيصير مثل ذلك الذي صار يجري بين الجموع ويصيح واضعا يده على خدّه : 'ضاع مستقبلي ضاع مستقبلي' فلما لحق الناس به ليستفسروه وجدوا أنه زمّار انفجر خده من شدة النفخ في المزمار. بحق لا أريد أن أرعب الرجل، فهو قبل وبعد كل شيء رب أسرة طيّب وإن كان على نياته 'شيئا ما!'، إنما أردت أن أَسُوقَ تصريحاته العفوية والساذجة أحيانا، كمثال صارخ بل مثالٍ 'صادحٍ وشادٍ' عن الضحالة المعرفية والفكرية والخواء السياسي المُطْبِق الذي وصل إليه عشرات الملايين من المصريين والعرب عموما، من فرط التفقير والحرمان من تعليم أساسي ذي مستوى يكفل الحد الأدنى من المعرفة ويضمن إمكانية استمرار التعلُّم والتثقيف اللازمين لممارسة سليمة للمواطنة حقوقا وواجبات. وليْتهم على الأقل تُرِكوا في حالهم ولم يَزُجَّ بهم 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد' في لعبة وصراعات لا قِبَلَ لهم بها ولا يفهمونها أصلاً،فحوّلوهم تارة إلى ديكور لديمقراطيات صورية، وتارة أخرى إلى مطبِّلين ومزمِّرين وسُعاة أوراقِ تصويتٍ يضعونها حيث يُمْلى عليهم. عبد اللطيف البوزيدي - كاتب من المغرب - القدس العربي اللندنية |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق