30/4/2010 |
هالني ما جاء في افتتاحيةٍ لإحدى صحف المهجر العربية بشأن تنظيم القاعدة، ليس لأن كاتبها أتى بجديدٍ حول الهجمة المريعة والمحزنة الأخيرة بالعراق، فمثل نغمته الهتشكوكية حول خطورة ووحشية تنظيم شبح لم تعد تطرب أحدا لكثرة ترددها على المسامع، ولا أحد عاد يجهل أن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، بغض النظر عن طبيعته المقاومة حسب البعض أو الإرهابية حسب البعض الآخر، صار مشجبا تعلق عليه الأطراف الداخلية والخارجية كل مآسي العراق، أو منشفة يمسح بها مجرمو الداخل والخارج أيديهم بعد كل مذبحة يباشرون أو يُسَهّلون تنفيذَها، ولا أحد ما زال يصدق بالحرف كل ما ينسب لهذا التنظيم المحيّر، وإن أجهد بعضُ الكتّاب أنفسَهم في إبراز دوره دون غيره من المتسبّبين في فيضان 'وادي الدّماء' بالعراق. إنما هالني في الافتتاحية المذكورة مدى استماتة أقلام عربية وفي جو لندني يعبق بنسائم 'حرية التعبير' وحصانة الإعلام، استماتتها في محاربة تنظيم شبح تدعي لوحدها القدرة على رؤيته في أوضح صورة، في مقابل عدم جرأة نفس الأقلام على مجرد ذكر ما تبدَّى وثبت من جرائم 'ناعمة' وأخرى 'وحشية' اقترفها وما يزالون من تسميهم باختصار واحتشام:'الاحتلال'. هالني كل ما تكدس بنفس الافتتاحية من تأكيدات لا تستند إلى أية وقائع أو حقائق ثابتة، أنا الذي هجرت مثل تلك الصحافة منذ أمد وبالذات بسبب قلة الموضوعية، لأعود إليها في إطلالةِ فضولٍ عابرة على أمل أن تكون الطفرة الإعلامية قد غيرت فيها شيئا، فأجدَ حالتها قد استفحلت، وأجدَ التحيّزَ والتهافت قد بلغا لديْها مداهما، فلم تعد تأبه لما يقال عن تحيزها المفضوح لأنظمة بعينها بالمنطقة وحليفها الاحتلال المتدثّر بدشداشة الديمقراطية المزعومة. بل أكثر من ذلك عدت لأجدَ تجرُّدَ تلك الأقلام من الموضوعية قد زاد عن حدّه، وافتقارَها إلى الوقار الإعلامي النابع من احترام ذكاء القارئ قد تحوَّل إلى 'أَنِيمْيا' فكرية وإعلامية. كان الرجل يستميت جَهْد ما استطاع في تحميل القاعدة كل ويلات العراق، وكانت تأكيداته من النوع الذي لا يجرؤ عليه حتى خبراء شؤون التنظيم الذين غالبا ما ينطلقون من فرضيات ليصلوا إلى أخرى دون التورط في ادعاء امتلاك الخبر اليقين حول طبيعة تنظيم القاعدة أو تحركاته واستراتيجيته، فقد كان الرجل يؤكد جازما أن القاعدة 'تحاول إيقاظ الفتنة' وكأن فتنة العراق نامت ولو ليوم واحد منذ سبع سنوات، وأنها 'تستدعي الحرب الأهلية والمذهبية' (عدنا إلى فرضية استمتاع الإسلاميين بالقتال واحتفائهم بطقوس الحرب المسلّية) وأنها 'تتخذ الدعوة إلى انسحاب أمريكي ذريعة لاستباحة أرض العراق' (من يستبيح ماذا؟) أما درة تأكيدات كاتب الافتتاحية فكانت بالتأكيد قوله: 'حرصت القاعدة منذ اللحظة الأولى على استهداف أجهزة الأمن والجيش، أي استهداف ما يساعد على التعجيل بانسحاب قوات الاحتلال'، وبذلك صار من يحارب الاحتلال وأزلامه هو من يريد بقاءه. صحيح أنه لا يمكن لمتأمل الهجمات التي تنسب إلى تنظيم القاعدة أو حتى تلك التي يعلن مسؤوليته عنها، إلا أن يقرّ بأن أساليبه خارجة عن المألوف حتى إسلاميا، بل يمكن وصفها كما وصفها صاحبنا بـ'الوحشية' ما دامت تحدث أضرارا بشرية فظيعة، غير أنها لا يمكن أن تتفوّق في الوحشية على أساليب المحتل الأمريكي من تعذيب واغتصاب ويورانيوم منضب...، أو أساليب الصهاينة من جعل المدنيين دروعا بشرية واستهدافهم بالقنابل العنقودية والفوسفورية... ولست أقصد بهذا الدفاعَ عن تنظيم شبح لديه من المنظّرين والناطقين الرسميين مَنْ يتناقلُ العالمُ في سرعة البرق بياناتِهم وبجميع اللغات، كما لا أقصد استحسان أساليب التنظيم الانتحارية التي فيها من الجبن والاتّكالية والتغرير والعشوائية ما يبعدها كلّيا عن الأساليب 'الجهادية' الدفاعية التي يرتضيها الإسلام بمختلف طوائفه ومذاهبه، وتصفها وصفا دقيقا مصادرُ تشريعِه، مِنَ التّعاملِ مع البشر إلى معاملة الشجر والحجر أثناء القتال، إنّما أقصد استنكار التّضليل الذي تمارسه بعض الكتائب الإعلامية للأنظمة، تضليل دافعُهُ في الحالة العراقية بالذّات هو في اعتقادي ما أسمته الدكتورة مضاوي الرشيد 'عقدة العراق' التي تعاني منها منذ الأزل معظم أنظمة المنطقة. كما أقصد بالتحديد استهجان محاولات صرف الأنظار عن الاحتلال الأمريكي الدنيء وما سبّبه وما زال يسبّبه للعراق وأهله، وجعله في منزلة من دخل العراق عن وجه حق ولا ينتظر للانسحاب منه إلا تبخُّرَ القاعدة لينصرف بعد إتمام مهمّته الإنسانية! إنه التطبيع مع الاحتلال والهيمنة الغربية في أوضح تجلّياته، بل هو في اعتقادي ما يسميه الكاتب صبحي حديدي 'تجميل وجه الهيمنة القبيح'. وما دمنا بصدد الحديث عن 'القاعدة'، والقاعدة بـ'القاعدة' تذكر، فإنّ النظرة المقارنة بين تنظيم القاعدة والاحتلال يجب أن تبنى على قاعدة أكبر مجموع من الأذى وليس على قاعدة آخر ضحيّة. نعم لمواساة شعب العراق في كل ما يصيبه من القاعدة أو من غيرها، لكن ليس على طريقة 'لا تبْكِ يا بُنيّ، فالأشباح التي تُخيفُك سيطردُها العمُّ سام'. نعم وألف نعم للتقريب بين شيعة العراق وسنّته والتطرّق لأسباب تباعُدِهما، لكن رجاءً ليس على طريقة 'أسنانُك المسوّسة يا بُنيّ أكلَتْها الفارة (أو القاعدة)'. لم أكن أتصوّر أن تصدر عن الإعلاميين العرب بالمهجر مثل تلك الافتتاحية إلى جانب روائع بعضٍ من أعمدة الإعلام العربي المعاصر، لذلك تبادر إلى ذهني حجم الضّرر الذي تُحدثه في الوعي الجماعي العربي بعضُ الخطوط التحريرية 'المائلة' مَيَلاناً غريباً، كما تساءلت عن سُبُل تمييز القارئ العربي بين الصالح والطالح من الخطوط التحريرية لوسائل الإعلام العربية المختلفة، في ظروف تعثر الديمقراطية وحرية التعبير وفي ظل غياب وسائلَ إحصائيةٍ تُمكِّن من إبراز الأكثرِ جدّية ومصداقية وتتبُّعا. كان ذلك قبل أن يبشّرنا السيد عبد الباري عطوان بدخول مؤسسة 'غوغل' على الخطّ كمؤسسة علمية وتكنولوجية متخصّصة، أقصد دخولها على خطّ الإعلام العربي، لتبوؤ كلّ مؤسسة إعلامية مكانتها اللائقة بها، وتتوّج الإعلام العربي الرصين في شخص 'القدس العربي' التي علمنا جميعا أنّ موقعها لوحده يستقطب ثمانية ملايين قارئ شهريا، أي ما يعادل المائة مليون سنويا، وهو رقم مذهل إذا علمنا أنّ مجموع مستعملي الإنترنت العرب لا يتجاوز الأربعين مليونا. لن أكتب عن مثل تلك الافتتاحيات بعد الآن، فقد صار بإمكاني بقليل من كبسات أزرار أن أتأكد من أنها لم تُلحق ضررا يستدعي الإصلاح، وأنها بقيت كما يجدر لها أن تبقى، مُجرّد صيحات في واد يُقارب عددُ رُوادِه الصّفْر. عبد اللطيف البوزيدي - كاتب من المغرب - القدس العربي اللندنية |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق