تَردَّد كثيرا على الساحة السياسية العربية في العقد الأخير مصطلحا 'الاعتدال' و'الممانعة' اللذين استُحْدِثا تلبية لضرورة اصطلاحية، ولملء فراغ دلالي ناجم عن بروز وضع جديد غير مسبوق، لم تعد فيه مصطلحات 'الكفاح' و 'المقاومة' ذات صيت وصارت تسمياتٌ أخرى مثل 'دول الطوق' أو 'جبهة التصدي' فارغةً من أي معنىً. مصطلحا الاعتدال والممانعة ليسا رسميين في القاموس السياسي للأنظمة العربية ، غير أن لهما صدى وانتشارا واسعا في الأوساط الصحافية والشعبية، مع تفرُّد مصطلح 'الاعتدال' بالظهور بين الفينة والأخرى في القاموس السياسي الغربي حين يُراد الإشارة إلى الأنظمة العربية المَرْضِيّ عنها. فما أصل تسميتَيْ 'الاعتدال'و'الممانعة' ؟ وما أسباب أُفُول نجم معسكر الاعتدال، بل ووقوعه بين طرفي كمّاشة؟ وفي المقابل ما الذي قوّى شوكة معسكر الممانعة وجعل شمسَه تسطع من جديد؟ فيما يخص أصل تسميتي 'الاعتدال' و'الممانعة' تجدر العودة إلى ما يفوق الأربعة عقود إلى الوراء، لتقديم لمحة مقتضبة عن الظروف التي هيّأت لانقسام العرب إلى معسكرين فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت الهزيمة السريعة والبيِّنة التي مُنِيَ بها العرب في حرب 67 والتي سمّوْها 'نكسة' ربما لتخفيف هول الصدمة،(كانت) أهونَ عليهم ممّا صاروا عليه بعد اتفاقية كامب ديفيد السيئة الذكر، فقد كانوا على الأقل متّفقين من المحيط إلى الخليج أنَّ إسرائيل كيان دخيل غاصب وعدو مشترك وجب اقتلاعه إن عاجلا أو آجلا، وكان بإمكان الشعوب العربية أن تتظاهر وتُزبد وتتوعّد وتُمنّي النفسَ بالتحرّر والوحدة، وكل ذلك بمباركة وتمويل ومشاركة من الأنظمة يوم كانت الشعوب وإياها سمناً على عسلٍ، على الأقل فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية...وكان أن زاد العربَ ثقةً نصفُ-انتصار حققوه جماعيا إلى حدّ ما في حرب أكتوبر 73، فازدادت رغبة الشعوب في مواصلة التصدّي حتى 'تحرير فلسطين، كل فلسطين' وهي عبارة طالما سمعناها وردّدناها صغارا مع إذاعة 'صوت فلسطين' أيام كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحظى بساعاتِ بثٍّ يوميةٍ ببعض الإذاعات العربية.شعار 'تحرير فلسطين، كل فلسطين' ذلك، تآكل مع الزمن كما تتآكل الشعارات العربية بالجملة، فقد صار بالنسبة للبعض ضربا من الخيال، وصار بالنسبة لآخرين مرادفا للرغبة في إبادة اليهود وبالتالي معاداةً للسامية، تلك التهمة التي صارت مثل بعض الملابس الجاهزة ملائمةً لجميع المَقاسات. كان حماسُ العرب إذن في ذُروته والتعبئةُ متواصلةً بعد الحرب في الفترة التي سبقت معاهدة كامب ديفيد، وبدا حلم استعادة الأرض والمجد ممكنا، بل ظُنَّ أن الوحدةَ نفسَها قد صارت قابَ مُؤتمرَيْن أو أدنى! لكن شيئا ما حدث، شيءٌ أخْمد حماس الشعوب العربية وقلَب تفاؤلَها حيرةً وغمّاً مُقيماً، فقد لمع النظام المصري مجددا لكن سلبيا هذه المرة، إذ لم يرَ في ما نظرت إليه الشعوب العربية على أنه انتصار في حرب رمضان، سوى دليلا إضافيا على 'قوة' إسرائيل وإصرار الغرب على مساندتها مهما كلفه ذلك، ودليلا على محدودية قدرة مصر على المواجهة ولو بدعم عربي. لقد تبيّن للنظام المصري أو لنقُلْ تهيّأ له ضعفُ مصرَ الاستراتيجيُ والاقتصاديُ أيضا رغم مخزونها البشري الضخم الذي كان يمكن أن يكون عنصر قوة لوْ وجد نظاما قويا يُقيم للسّيادة وزْناً (على غرار النظام التركي الحالي مثلا). رضخ النظام المصري إذن للضغوط والإغراءات، فالعصا والجزرة كانتا دائما حتى قبل ذلك الحين وإلى يومنا هذا من 'الأدوات' المفضلة للسياسات الغربية تجاه العرب والمسلمين، لكن المرحوم السادات لم يعترف إلا بالإغراءات في خطاب مدوٍّ أمام مجلس الشعب المصري، حين طفق يعدّد منافع اتفاقية كامب ديفيد ويمجِّد مليارات المساعدات والاستثمارات التي قال إنها ستنهمر على مصر والمصريين، والحقيقة أنه مثلُ مَنْ 'رشّهُمْ بالعسل وتَرَكَهم عُرْضةً للذُّباب'. هُنا، وللموضوعية لا بد من الإشارة إلى تقصير بل وتخاذل الدول العربية في دعم مصر خلال فترة ما بعد الحرب، رغم ما بذله شعبُها من تضحيات جِسامٍ، وبالأخص منها الدول العربية النفطية الخليجية والمغاربية، بصناديقها السِّيادية الضّخْمة واستثماراتها التريليونية في الغرب، ذلك الغرب نفسه الذي ترَكتْه ينفرد بمصرَ ويضغط عليها ويغريها بالفتات. لم تكن معاهدة كامب ديفيد معاهدة سلام كما صُوِّرت بقدر ما تبيَّن لاحقا مع توالي تنازلات وخدمات النظام المصري لإسرائيل، أنها كانت معاهدة 'استسلام' لا تختلف كثيرا في نظري عن معاهدة 'فيرْسايْ' وغيرها من المعاهدات المُذِلّة، المُذيبة لهوية المستسلِمين والسالبة لسيادتهم وكبريائهم، لأنها تجعلهم يُؤدّون فروضَ الطاعةِ خدماتٍ وتسهيلات وحتى إتاوات نقدية أو عينية (كالغاز مثلا)، لِنَقُلْ ببساطة إنّ كامب ديفيد كانت معاهدة استسلام بالتقسيط المريح. كانت تلك بداية 'الاعتدال العربي' الذي شَكّلت مصرُ نَواتَهُ الصلبة، وما أصْلبَها من نواةٍ في تلك الفترة لما كانت تتمتع به من مكانة ونفوذ في العالم العربي. ورغم فقدانها ريادتها العربية ربما إلى الأبد وخروجها من جامعة الدول العربية ونَقْلِ مقرّ الأخيرة من القاهرة إلى تونس، ظلت مصرُ مُصِرّةً على توسيع معسكر الاعتدال، فساهمت بفعالية في جرّ جزءٍ من أصحاب القضية الرئيسيين إلى ملهاة المفاوضات، وما لبث أن توسّع المعسكر بتوقيع الأردن اتفاقية 'وادي عربة' وتحقق بذلك لإسرائيل هدفها المتمثل في تطويق وعزل الضفة الغربية (وهي ماضية اليوم في تقويض وصاية الأردن على الأماكن المقدسة)، بعد أن تمّ لها عزل وتطويق قطاع غزة إثر تحييد (بل تجنيد) مصر لهذا الغرض، وهي صاحبة الوصاية الإدارية على القطاع. ومع ذلك لم تبرز تسمية 'الاعتدال' إلاّ حينما انضمت دول عربية أخرى إلى معسكر مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. لم تُوَقِّع الدولُ حديــــثةُ الانضــمام معاهداتٍ ولا اتفاقياتٍ مع إسرائيل، لكنها استعاضت عنها بقنوات أخرى أكثر احتشاماً ما لبثت أن ألغتها كالمكتب التجاري لإسرائيل في قطر ومكتب اتصالها في المغرب والأنكى من ذلك سفارتها بموريتانيا، أما المملكة العربية السعودية فقد وجدت لها مخرجا من الضغوط الغربية للتطبيع مع إسرائيل بذريعة تشجيعها على السلام، وجاءت بفكرة مبادرة السلام العربية التي قَبِلَها العربُ على مضض، معتدلين وممانعين، مع تحفّظ خجول من لبنان البلد المستضيف لقمة 2002، ومع أنّ إسرائيل رفضت المبادرة بما فيها من تنازلات وقالت فيها مؤخرا أنها وصفة لتدمير إسرائيل، فإنّ العرب أصرّوا على إبقائها مطروحة مما أطلق يد إسرائيل في المنطقة ومكّنها من الاستفراد سنوات بعد ذلك بآخر فلول المقاومة بلبنان وغزة، إذاك فقط تركّز المدلول القدحي لتسمية 'الاعتدال' وبرز في المقابل المدلول الإيجابي إن لم نَقُل 'التَّمجيدي' لتسمية 'الممانعة'، والعكس صحيح طبعا بحسب انتماء المستعمِل لهذا المعسكر أو ذاك. عبد اللطيف البوزيدي- كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية |
الثلاثاء، 20 يوليو 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق