لم أقصد باقتراح 'التناسبية في الديمقراطية' في مقال سابق ('القدس العربي' عدد 6408 في 15/01/2010) أن أَحيدَ عن مبادئ الديمقراطية القائمة على التعددية والتداول وفصل السلطات وغيرها. كما لم أكن باقتراحاتي في هذا المجال لأدَّعِيَ ابتكار نمط جديد من أنماط الاقتراع، فقد استحدث مُنَظِّرُو السياسة ما يكفي منها وما زالت صالحة وذات مصداقية علمية أكيدة ما لم يشُبْها تحريف أو تزوير إبَّان التطبيق. لم أدّعِ إذن تغيير جوهر الديمقراطية وإنما انصب اهتمامي على التفاصيل، واكتفيت باقتراح تقني بسيط لكنني أعتقد أنه على درجة كبيرة من الأهمية، يتمثّل في سُلّم تنقيط مُحْكم يُبْنى وفق معايير متفق حولها قطريا أو دوليا إذا اعتُمد مبدأ التناسب في إصلاح هياكل الأمم المتحدة المتقادمة، سلّمٌ يُعْتمد قبل أي اقتراع لتقييم أصوات الناخبين وتقنين الترشيح للهيئات التمثيلية في كل دولة أو تقييم أصوات الدول تناسبيا، قبل أي تصويت لطرح قرار أممي أو اعتماده، تقييم وتقنين ينبغي ألاّ يُعتبرا تمييزا بين المواطنين أو بين الدول بمعناه السلبي ، كالتمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الطائفة أو العشيرة أو العقيدة، وإنما هو تمييز إيجابي وصحي على أساس معايير النضج والكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية يتوخى الرفع من مستوى أعضاء الهيئات التشريعية والتمثيلية وكذلك من مستوى منظمة دولية كالأمم المتحدة، تبتغي تحقيق العدالة الدولية بينما لا تَمُتُّ بِصِلَة الى هياكلُها ولا قوانينُها الداخلية، إذ يمكن إرساء التناسبية أمميّا على أساس معايير الديمغرافيا وحجم الاقتصاد ومستوى التطور العلمي والتكنولوجي مثلا. وفي كل الأحوال فالديمقراطية التناسبية ستسهم في قطع الطريق أمام مفسدي الانتخابات من جهلة وراشين ومرتشين، ونافِذين متحَكِّمين، وضِعافٍ خاضعين كَرْهاً أو طوْعاً. إذ كيف يعقل أن تُترك أبوابُ المؤسسات التمثيلية الشعبية مُشرعة أمام أمثال هؤلاء ليعبثوا بمصائر مواطنيهم ويعيقوا تطوّر ونماء الأوطان؟ ألم يكن ضعف المؤسسات التشريعية بالوطن العربي مثلا وتفشي الجهل والأمية في دواليبها، من أهم أسباب وقوعها في مطبات تاريخية عديدة ليست أقلَّها خطورةً المصادقةُ على اتفاقيات مفروضة وغير متوازنة كبعض الاتفاقيات التجارية ، وأخرى مهينة و'انشطارية' لا تكف عن الانفجار و'توليد' التّبِعات كاتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة ؟ ألم تسهم الرداءة العلمية والفكرية لتلك المؤسسات في التغاضي عن الارتهان للغرب والارتماء في أحضانه ضدا على مصالح الشعوب وإرادتها وقضيتها المركزية؟ وفي المقابل ألم تكن جودة و قوة المؤسسات التشريعية الأوروبية والأمريكية من أهم عوامل تقدمها وتوحُّدِها ضدا على التباينات الصارخة والتناحر السابق بينها؟ في واقع الأمر مَن يتأملْ 'الديمقراطيات' العربية التي شاخت دون أن تغادر المهد، يجِدْ أنَّ التمييز السلبي على أساس طائفي أو عشائري أو حتى عائلي هو السائدُ رغم كل المساحيق التي لاتُخفي، إلّا كَمَا الغربالُ الشمسَ ، أنانيةً مُخزية و تعصُّبا مَقيتاً، هذا إذا تعذّر الإكراه أو الشراء المباشر للذِّمم، ما دامت لأصوات العالِم والجاهل والناضج والقاصر والرّاشد والسّفيه نفس القيمة ونفس القدر من الأهمية لدى الترشّح أو الانتخاب! فإذا كان لا بدّ من التمييز بين المرشحين قصد اختيار الممثلين، لاستحالة تمثيل الجميع للجميع،فليكن ذلك وفق معاييرِ استحقاقٍ منطقية وعلمية، كالاختيار على أساس معايير النضج والكفاءة العلمية والقدرة على تحمل المسؤولية، والذي ليس إلا تمييزا محمودا معمولا به دون تحفظ من أيٍّ كان، في اختيار الإداريين والأمنيين والقضاة وكل من له علاقة بالسلطتين التنفيذية والقضائية، فما المانع من العمل به في المجال التشريعي الذي يعتبر قطب الرحى في العملية الديمقراطية ؟ بل لماذا تُستثْنَى لدينا نحن العرب بالذات السلطةُ التشريعية عمْدا منذ نشأة الأنظمة العربية الحديثة، من اعتماد معايير استحقاق علمية وموضوعية في اختيار القائمين عليها؟ لقد نتجت عن 'إشراع' باب المجال التشريعي والتمثيلي 'شرْعنةٌ' رسمية وشعبية حقيقية وتمجيد غير مفهوم للرداءة والمحسوبية والارتزاق ، فغَزتِ البرلماناتِ العربيةَ جحافلُ الجَهَلَة والمرتزقة والمترحلين بين أحزاب معتلة بنفس علل الأنظمة، في نقض صارخ لقواعد التعاقد السياسي مع الناخبين، فصار شَخيرهم يملأ جنبات البرلمانات العربية إذا التزموا بالحضور، فأحدثوا فوضى القوانين وضعف واختلال التشريعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية التي لا قبل لهم بها. وحتى حين يتم الانتباه إلى خطورة الأضرار التي يلحقها الجهلة بالمجال التشريعي ويقع تقنين الترشح يتم ذلك لرفع العتب والحرج حيث يُشْترط حصول المرشحين لرئاسة المجالس على الشهادة الابتدائية التي يحصل عليها أطفال في سن العاشرة، وكأن المطلوب من البرلماني أو عضو المجلس الجماعي هو فقط القدرة على كتابة اسمه وتهجي ما يُحرِّر له غيرُه من خطابات رنّانة جوفاء، لا أن يكون على قدر من النضج الفكري والكفاءة العلمية والقدرة على تحمّل المسؤولية، ليكون خير ممثل لناخبيه، مدافعا عن حقوقهم ومعبرا عن همومهم وتطلعاتهم. أما عن مسوغات اقتراح المعايير السالفة الذكر كأساس لسُلَّم تقييم أصوات الناخبين وتقنين الترشح قبل الاقتراع، فيمكن إجمالها فيما يلي: - بالنسبة لمعيار النضج فهو معيار معمول به حاليا ولا يحتاج إلا إلى مزيد من التفصيل باعتبار مؤشر السن كأن تمنح نقطة لمن تتراوح أعمارهم بين 18و25 سنة مثلا ونقطتان لمن بين 25و40 سنة وثلاث لمن تعدوا أو تعدّين الأربعين. - وبالنسبة لمعيار الكفاءة العلمية الذي يستحسن أن يمنح الوزن الأكبر وبالتالي العدد الأكبر من النقط، فيمكن اعتماد مؤشّريْ المستوى الدراسي والإنتاج العلمي أو الفكري أو الثقافي كمؤشرين دالَّيْن على تحققه لدى الناخب أو المرشح، ومن ثم تمنح نقاط معينة لكل شهادة دراسية وأخرى للابتكارات العلمية والإنتاجات الفكرية والثقافية بعد ثبوت قيمتها وفق شروط. - أما فيما يتعلق بمعيار القدرة على تحمل المسؤولية فيمكن أن يرصد له مؤشران دالان على تحققه، هما مؤشر الوضعية العائلية لتمنح نقاط معينة للمتزوجين ونقاط أقل للعزاب الذين لم يخبروا بعد المسؤولية الاجتماعية، ومؤشر الوضعية المهنية التي غالبا ما تعتبر من دلالات القدرة على تحمل المسؤولية. وأخيرا وليس آخرا لابدّ من الإشارة إلى أن الفوائد المباشرة وغير المباشرة للديمقراطية التناسبية متعددة وتتراوح بين تطوير الكفاءة التشريعية للأنظمة ورد الاعتبار للكفاءة والاستحقاق وتشجيع العلم والمعرفة، مرورا بالحد من تجاوزات السلطتين التنفيذية والقضائية اللتين لا تعدمان مع الأسف أطرا تحترف الالتواء على التشريعات وتعطيلها أو إفراغها من مضامينها في غياب نضج وكفاءة أعضاء المؤسسات التشريعية والتمثيلية. عبد اللطيف البوزيدي- كاتب من المغرب- القدس العربي اللندنية |
الثلاثاء، 20 يوليو 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق