الثلاثاء، 20 يوليو 2010


يوم العجائب على قناة 'الجزيرة'
2/27/2010


كلما عدت إلى مشاهدة قناة 'الجزيرة' بعد هجرها قسرا أسابيع لفائدة الكتابة أو الالتزامات المهنية، راودني كابوس رهيب أحمد الله أنه مجرد تصور افتراضي لما كان يمكن أن يحدث للأمة العربية بقليل من سوء حظها العاثر، لكنه لم يحدث لحسن حظها النادر. من خصوصيات هذا الكابوس المراودة في 'اليقظة'، ولا شك أنه زار معظم مشاهدي 'الجزيرة' وقراء 'القدس العربي'
هو كابوس يتلخص في السؤال التالي: 'ما الذي كان سيكون عليه حال ومآل الشعوب العربية بدون هاتين الوسيلتين الإعلاميتين اللتين اتسع انتشارهما واخترقت شهرتهما حدود الوطن العربي؟ أي خراب وشتات كان سيضاعفه للأمة أعداؤها وأية جرائمَ إضافيةٍ كان يمكن أن يقترفها ضدها الصهاينةُ ورهائنهم الغربيون لو لم تكن مسلّطةً عليهم الأضواء الكاشفة للجزيرة والقدس العربي، كفلتتين من فلتات الزمن العربي الرديء، لترصد ألاعيبهم ودسائسهم؟ السر في تميز هاتين الوسيلتين بالذات قد لا يكمن في التشبع بالروح القومية أو النزعة الإنسانية فحسب وإنما أيضا في التجرد والحياد والمهنية العالية.مثل كل مرة لم تذهب سدىً عودتي لمشاهدة الجزيرة مع برنامج 'الاتجاه المعاكس' الحافل بالمفاجآت، حلقة هذا الأسبوع كانت مغاربية خالصة وخلالها استضاف فيصل القاسم نائبَ رئيس البرلمان الجزائري الأسبق د.محمد جهيد يونسي، وفي الجانب الآخر أحدَ المعارضين الليبيين الذي أفضل نسيان اسمه. بَدا لي لأول وهلة أن موضوع الحلقة غريب نوعا ما، على الأقل بالصيغة التي جاء عليها سؤال استفتاء المشاهدين وهي: ما الذي تفضل؟ الاستعمار أم الأنظمة العربية؟ فهو يخيِّر ضيفيْ البرنامج بين شيئين أحلاهما مرٌّ وقد أشار إلى ذلك د. منصف المرزوقي في مداخلة هاتفية بقوله: 'لا يمكن أن نخيِّر أحداً بين الطاعون والكوليرا'، وهو ما انتبه إليه أيضا الضيف البرلماني الجزائري فحرص على التأكيد منذ البداية أنه لا يدافع عن أنظمة يعلم الجميع أنها مستبدة من أقصاها إلى أقصاها، قبل أن يشن هجوما عنيفا مبرَّرا على الاستعمار وعلى أذنابه، سواء الذين خلَّفهم وراءه أو الذين لحقوا به واحتضنهم.أما المعارض الليبي فلم يكتف بمهاجمة الأنظمة بل استغل الفرصة للتغزُّل بالاستعمار أمام دهشة مستضيفه الذي على ما يبدو لم يكن يتوقع من ضيفه هذا الموقف الشاذّ وهذا الذنب الذي لا يجرؤ على الاعتراف به حتى من سبقوا إلى اقترافه في العراق وغيره، وكم كانت دهشة فيصل القاسم أكبر حين انفجر المعارض الليبي معلنا أنه على استعداد لدخول ليبيا على ظهر دبابة من دبابات العدو! لم يصدق فيصل ما سمعه فطلب من ضيفه تكرار ما صرخ به (مع أنّ 'الأعمى قال خرمها كبير والأطرش سمع رنتها، على رأي أغنية لعاصي حلاني'). أما البرلماني الجزائري فقد أدرك حينها أنه كسب النقاش، فردّد مرّات عدة: 'خلاص، انتهى!'. كان يقصد 'خلاص انتهى النقاش وانتهت الحلقة' ووَدِدْت لو أنه أضاف:'خلاص انتهى عهد المعارضين الشرفاء في الوطن العربي وبدأ عهد عرائس الدبابات، الذين يعلنون الاقتران بالغزاة حتى قبل امتطاء الدبابات'. استماتة المعارض الليبي في الدفاع عن الاستعمار والدعوة العلنية إلى عودته لم تُعادِلْها سوى استماتة السيدة هيلاري كلينتون في تبرير تدخل الولايات المتحدة عبر العالم في شؤون الأنظمة ومصائر الشعوب. كانت الجلسة عامة وعلنية تبثها قناة الجزيرة لملايين المشاهدين، هكذا أرادتها كلينتون ربما لظنِّها أن الأسئلة ستكون على هواها، لكن المتألق عبد الرحيم فقراء والطلاب والطالبات العرب كان لهم رأي آخر، فأحرجوها بأسئلة منطقية تبرز التناقضات الصارخة للسياسة الخارجية الأمريكية وكيلها بمكيالين كلما تعلق الأمر بعرب أو مسلمين. يقول الشاعر واصفا من هو غير واثق ومحرج من مواجهة الجمهور: 'مليء بِبُهْرٍ والْتِفاتٍ وسُعْلةٍ ومَسْحَةِ عُثْنونٍ وفتْلِ الأصابعِ' وكذلك تماما بدت السيدة كلينتون، أمام جيل جديد من الشبان العرب قال عنهم السيد عبد الباري عطوان إنهم 'على درجة كبيرة من الوعي السياسي'.
عجيب أمر الجزيرة و'القدس العربي'، تجتذبان كبار القادة كما يجتذب العسل النمل، لكنه نمل مُجنّحٌ ما يلبث أن يعلق جناحاه، ليرى الجميع كيف يتلعثم ويتلكّأ هؤلاء 'القادة الشجعان' أمام أسئلة وتعليقات صحافيي الجزيرة ومشاهديها (السيدة كلينتون كاتبة الدولة في الشؤون الخارجية الأمريكية نموذجاً) وأمام صحافيي ومعلقي 'القدس العربي' (السيد آيفن لويس كاتب الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط نموذجا). لم ينته مسلسل العجائب على قناة الجزيرة ذلك اليوم بما قيل لكلينتون فأحرجها أو بما صدح به المعارض الليبي، فقد كانت في انتظاري أعجوبة أخرى: مفتي نيجيريا يفتي على الهواء بإباحة قتل العزّل من أنصار جماعة 'بوكوحرام' ولو بالطريقة التي رآها العالم مذهولاً بفضل الجزيرة نفسها. قد يقول قائل إن هذا يؤكد أن فهم الإسلام محرّفٌ لدى بعض الشعوب والقوميات حديثة العهد به، فيرد آخر وهل من فرق بين من طبقوا دون فهم ومن لم يطبقوا وإن فهموا؟ ومع ذلك نرى كيف مرت هذه الفتوى مرور الكرام بينما تقوم الدنيا ولا تقعد حين يفتي الشيخ القرضاوي مثلا بإباحة قتل الغزاة والمحتلين!
عبد اللطيف البوزيدي -كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق