الثلاثاء، 20 يوليو 2010


المعلمون العرب: بين اختلال النظم التربوية وحيف الأنظمة السياسية
6/4/2010

يعتبر الإصلاح السياسي المدخل الطبيعي والمنطقي لأي إصلاح قطاعي كإصلاح النظام القضائي أو الصحي أو التربوي أو غيره، ذلك لأن الإصلاحات القطاعية أو المجالية رهينة بالإرادة السياسية الأكيدة، الكفيلة بمنح تلك الإصلاحات 'القوة' التشريعية والتمويل اللازمين للتخطيط السليم وإشراك الكفاءات وما يليها من تتبّع وتقويم ومحاسبة. كيف يعقل إذن أن نستسيغ كل دعوات ومحاولات الإصلاح القطاعية في العالم العربي، في غياب الإرادة السياسية غيابا واضحا يجسّده جمود الأنظمة السياسية واختلال القوانين والدساتير؟ وهل يمكن إنجاح الإصلاحات دون عمليات التتبّع والتقويم والمحاسبة التي تستمدّ جدّيتها وشفافيتها من جدّية وشفافية النظام السياسي، الحاضن الرئيسي لكلّ النُّظم القطاعية؟
إنّ في معظم دساتير الدول العربية مواد مثيرة للجدل لتعارضها مع المبادئ الديمقراطية أو تقييدها للحريات المدنية أو السياسية، وكثير من قوانينها موروثة أو متقادمة، كما أن البرلمانات العربية تتشكل في معظمها من قلة غير مؤثرة من الكفاءات العلمية والأكاديمية ومن خليط هجين من الأعيان والمُعيَّنين والأميين وأنصافهم، وبالتالي فإن بانتفاء التشريعات والقوانين المناسبة وانتفاء إمكانية تعديلها وتطويرها، يستحيل إيجاد أرضية ملائمة لإرساء الإصلاحات القطاعية. فإصلاح قطاع التعليم مثلا يبقى دون مفعول بل يصير مُرْبِكاً إن لم يتم الخوض مسبقا في مسائل سياسية كالإجماع عبر المؤسسات التشريعية حول فلسفة تربوية (ميثاق وطني) تكون منطلقا لتحديد الثابت والمتغيّر في السياسات التعليمية المتعاقبة، وضمان استمرارية وتناسق تلك السياسات وإن تغيّرت الحكومات. في موضوع إصلاح التعليم بالذات وحتى إن تمّ الإجماع على ميثاق للتربية والتكوين وسنّ قوانين وتشريعات تضمن استمرارية وتناسق السياسات التربوية المتعاقبة، ستبقى نتائج الإصلاح رهينة بما يرصد لمشاريعه من إمكانات مادية مهمة في معظم المجالات كالبرامج والمناهج والموارد البشرية والبحث العلمي والتكوينات وغيرها. ومن ثمّ فإن ترجمة الإرادة السياسية للإصلاح في الواقع، لا تكون بإكثار المشاريع والتزمير لها واستجداء انخراط الفاعلين التربويين المُرْبَكين المُنهَكين أصلاً، بل بالعمل على رصد الإمكانات المادية اللازمة وتتبع أوجه صرفها، إذّاك فقط يمكن للإرادة السياسية أن تتبلور في الواقع، وليس بالتذرّع بكون الإنفاق على التعليم قد تجاوز ربع ميزانية الدولة كما هو الحال في المغرب مثلا، فليكن الثُّلُث أو الخُمُسَيْن أو حتى نصف الميزانية إن حَضَرَت الإرادةُ السياسية التي يؤمن أصحابها فعلا أن التعليم 'يبيض ذهبا' وإن آجلاً، فمعدلات الإنفاق على التعليم في الدول العربية جد منخفضة مقارنة مع مثيلاتها في الدول المتقدمة وبعض الدول النامية، إذ تتراوح في الدول المغاربية بين 600 و 1000 دولار للتلميذ الواحد سنويا بينما يبلغ معدل الإنفاق على التعليم في فرنسا مثلا ما يفوق عشرة أضعاف متوسط معدلات الإنفاق العربية! لا يكاد الملاحظ العادي يجد في الغالب فرقا من حيث التجهيزات والوسائل بين المدارس والفصول العربية ونظيراتها في الدول المتقدمة، فأين يُصرف الفرق الشاسع بين ميزانيات التعليم العربية ونظيرتها في تلك الدول؟ وما الذي يبرر الفرق الواضح في المردودية؟
إن مدرسة 'النجاح' كما يحلو للبعض أن يسمّيها لا تعني فقط الساحات المعشوشبة أو الفصول المزيّنة أو المعلّم 'المُهندَم'، وإنما أيضا نوعية البنية التحتية والصيانة الدورية، وتكوين المعلمين وباقي الأطر التربوية والإدارية والرفع من أجورهم وتعويضاتهم ومن الخدمات الاجتماعية المقدَّمة لهم، وإعداد البرامج والمناهج بناءً على نتائج بحوث علمية جادة، وإرساء إدارة تربوية رشيدة وإشراف تربوي مستقل ونزيه، إضافة إلى وضع آليات التتبّع والتقويم والمحاسبة، وهي كلُّها مجالات كان للتقصير في الإنفاق عليها (إن لم نقل التقتير مع بعض الاستثناءات) تأثيرٌ واضحٌ على المردودية العامة للأنظمة التعليمية العربية. وللأسف ليس عشرات ملايين التلاميذ، أطر المستقبل، هم الضحايا الوحيدون للتقتير في الإنفاق على التعليم وبالتالي تبخيس دور التربية والتعليم في تطوُّر الشعوب ورقيِّها، وإنما هناك ضحايا آخرون بمئات الآلاف هم المعلمون العرب، ويا لمحْنةِ المعلمين العرب! فإذا أضفنا كثرة أعدادهم إلى توجُّه الأنظمة العربية نحو التقتير في الإنفاق على التعليم بالذات، تبيَّن لنا سبب تدني أجور المعلمين العرب عموما وما يترتّب عنه من شظف العيش واستحالة الاستعداد المادي والمعنوي لتطوير الأداء والرفع من المردودية المهنية، وإذا أضفنا إلى تدني الأجور انعدامَ أو نقصَ الحقوق النقابية للمعلمين وحِدّةَ الردود غير المبرّرة على مطالبهم المُلحّة، من منع النقابات و'الطعن' في الهندام واللِّحَى بالأردن إلى التهديد 'بالويل والثبور' في الجزائر مرورا باقتطاع أيام الإضرابات من الأجور بالمغرب، تتّضِحْ لنا محنة المعلم العربي ومعاناته المادية والمعنوية في وضعية لا يُحْسد عليها بين ضعف وعشوائية النُّظم التعليمية وتخلُّف الأنظمة السياسية واختلال أولوياتها واختياراتها.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق