الاثنين، 19 يوليو 2010


نحو ديمقراطية تناسبية بالوطن العربي
15/01/2010

تتأرجح أنظمة العالم الثالث وضمنها الأنظمة العربية، حين لا تبتلى بالدكتاتورية الصريحة أو المقنعة كقدر محتوم، بين نماذج ديمقراطية متباينة من حيث الآليات، فمن ديمقراطية نسبية تتخذ نسب الأصوات معيارا أساسيا للتمثيل السياسي، إلى ديمقراطية معيارية عتيقة ترجح معايير غير موضوعية كالحسب أو الانتماء إلى القبيلة أو الطائفة أو المذهب، وقد تهتدي في أحسن الأحوال إلى ديمقراطية توافقية ترسي الركود وتبطئ التقدم بتعقيد آليات اتخاذ القرار سعيا إلى تحقيق الاستقرار بتوسيع قاعدة المشاركين في السلطة.
والواقع إن سلبيات النماذج الديمقراطية المذكورة متعددة رغم أنها نماذج 'لأسلوب حكم واحد هو الأحسن الموجود لحد الآن فيما إذا طبق تطبيقا سليما وكانت الآليات الديمقراطية والانتخابية تعمل في ظروف جيدة'، سلبيات لم تسلم منها حتى أعرق الديمقراطيات بالدول المتقدمة، 'فما يحدث من اضطرابات واعتصامات ومظاهرات في المجتمعات العريقة في الديمقراطية، هو نتيجة لما يعتري تلك الديمقراطية من نقص'.
ورغم أن الديمقراطية تنبني من بين ما تنبني عليه على 'المساواة' بمفهومها الفلسفي الذي يوحي بالعدالة الاجتماعية وبالتوزيع العادل للثروة، فإنها تبقى لدى العرب بعيدة كثيرا، مهما اختلفت نظم الحكم وتباينت الآليات الانتخابية وأنماط الاقتراع، عن تحقيق العدالة التي من أجلها تقوم الأنظمة وتتولى مصائر الشعوب، فتحقيق 'المساواة' المطلقة على أرض الواقع غالبا ما يكون صعبا ومعقدا إن لم يكن مستحيلا، وهناك من يبلغ حد اعتبار 'المساواة فكرة خيالية ليست موجودة في الواقع المحسوس، فهي تفشل بمجرد أن يحاول المرء تحويلها إلى فكرة عملية لأنها مناقضة لطبيعة الكون'. ويمكن أن نستدل بأمثلة بسيطة على صعوبة تحقيق المساواة المطلقة أحيانا واستحالة ذلك أحيانا أخرى، فلا يعقل مثلا أن نساوي في كمية الغذاء بين ذوي أوزان مختلفة وإن تساووا في السن أو الطول أو المنزلة، ولا في الأجر بين ذوي ساعات عمل مختلفة وإن تساووا في الخبرة والمهارة، فلا مساواة إذن مع وجود الفارق، وما دام الفارق دائما موجودا بدليل ألا أحد يشبه أحداً في كل خصائصه وصفاته فلا مساواة يمكن أن تتحقق على مستوى الواقع بتفاصيله ودقائقه، وإنما يُكتفَى بمصطلح 'المساواة' في مستويات أقل دقة وأكثر عمومية كالحديث في المثالين السابقين عن المساواة في 'الحق في الغذاء' بدل المساواة في كمية الغذاء، والمساواة في 'الحق في الأجر' بدل المساواة في قيمة الأجر.
عطفا على ما سلف يمكن القول إن الديمقراطية في معظم دول العالم وفي الدول العربية على الخصوص لم تتجاوز بعد 'مرحلة العمومية' أو ما يمكن أن نسميه 'مرحلة التعبير عن النوايا' وأنها لم توجِد بعد الآليات العلمية والموضوعية لتتجسد على أرض الواقع بما يلزم من العدالة إن استحالت المساواة، إذ لا يمكن تصور تحقيق العدالة والاختيار السديد حين نلغي مثلا 'دور العلم والتربية والثقافة في تحديد السياسات'. فهل يمكن تصور وتأسيس نموذج ديمقراطي جديد، يحافظ على المبادئ الديمقراطية من 'مساواة' وفصل سلط وتعدد أحزاب وغيرها، لكن بآليات تطبيق جديدة، علمية وأكثر موضوعية وعدالة؟ أو بمعنىً آخر هل من سبيل إلى ابتكار آليات تتجاوز معوقات تنزيل الفكر الديمقراطي في الواقع؟ أقترح في هذا الصدد ما يمكن تسميته 'الديمقراطية التناسبية' التي أعرض في عجالة بعض ملامحها الإصلاحية، توازيا مع استعراض بعض معوقات تطبيق الديمقراطية في الوطن العربي على الخصوص: نحو تفادي ضعف مستوى السلطة التشريعية: صحيح أن فصل السلط من المبادئ الأساسية للديمقراطية، لكن إذا كانت ممارسة السلطتين التنفيذية والقضائية قد حُصِرت في ذوي الاختصاص من إداريين وسياسيين وخبراء، فإن السلطة التشريعية تُرِكت على عواهنها في جميع الأنظمة المسمّاة ديمقراطية في الوطن العربي، وعُهِد أمرُها في الغالب إلى أميين وأنصاف مثقفين وعديمي إحساس بالمسؤولية، أفرزتهم الآليات غير الموضوعية للديمقراطيات القائمة، سواء كانت نسبية أو معيارية أوتوافقية، في إلغاءٍ سافرٍ لدور الثقافة والمعرفة في تحديد السياسات (راجع مقال د. يوسف نور عوض - 'القدس العربي' عدد6396/ص19)، بدعوى ترك الاختيار للشعب، في حين أن مصلحة الشعب تكمن قبل كل شيء في منع بعض الجهلة والأميين والوصوليين من العبث في مجال حساس كالمجال التشريعي الذي يرهن مستقبله لعقود. ويكمن الخطأ هنا في 'المساواة' حين الاقتراع، فكيف يعقل أن نساوي، في عملية دقيقة وخطيرة كعملية اختيار أصحاب القرار التشريعي والتنفيذي، بين صوت الأمي الذي لم ينل حظه من المعرفة وصوت صاحب دكتوراه في العلوم السياسية مثلا؟
وهل كل المواطنين يملكون النضج والتجربة والمعرفة الكافية ليصيروا أصحاب قرار أو ليحسنوا على الأقل اختيار أصحاب القرار؟ يجب إذن قبل الاقتراع إيجاد طريقة ما، كنظام تنقيط محكم مثلا، لترجيح أصوات المواطنين الذين استوفوا معايير معينة كالنضج (باعتبار السن) والمعرفة والثقافة (باعتبار المستوى التعليمي) والقدرة على تحمل المسؤولية (باعتبار الوضعية العائلية والمهنية). لن نلزم كل المواطنين بأن يصيروا خبراء في السياسة أوالتشريع لكنها ضرورات الموضوعية والمنهج العلمي في التفكير كما قال رمضان لاوند للدكتور يوسف عوض: 'لا أريد من كل المثقفين أن يصيروا فلاسفة، لكن على كل من يتصدى لقضايا الفكر أن ينهج نهج الفلاسفة، أما رأيت أفلاطون يجعل منهم أساس جمهوريته؟'.
نحو إعادة العلماء والمثقفين إلى الأحزاب: الحزب السياسي هو خلية الديمقراطية وقلبها النابض، وهو 'آلة الديمقراطية التي تتم عن طريقها المشاركة الفكرية والسياسية والمنافسة بين الاختيارات المطروحة، وتدريب الكوادر السياسية وتصعيد القيادات والتنافس بينها أمام القواعد الحزبية والرأي العام'.
لكن الأحزاب العربية والعالمثالثية تشذُّ في معظمها عن هذا التعريف الذي أورده د. الصادق المهدي في مقاله 'البندول الحزين'، فهي تتخبط في مشاكل لا حصر لها تفوق أحيانا مشاكل الأنظمة نفسها.ومن أخطر مشاكلها عزوف النخب الثقافية والعلمية عنها، 'فكثير من حملة الشهادات والمؤهلات الأكاديمية والمهنية في العالم الثالث يشعرون بنوع من التعالي نحو المجتمع المحيط بهم... والأحزاب ذات الوزن الشعبي مرآة للواقع الاجتماعي بولاءاته الدينية والقبلية والجهوية، فلا غرو أن يشعر كثير من أفراد الصفوة المثقفة بالتعالي على الأحزاب'. ومن ثم فإن أنسب طريقة لإعادة المثقفين والأكاديميين إلى الأحزاب هي قبل كل شيء الاعتراف لهم بالأهلية وترجيح آرائهم وتيسير تبوئهم المناصب القيادية التنفيدية والتشريعية، وهنا تكمن أهمية 'الديمقراطية التناسبية' ونظام التنقيط المضبوط المصاحب لآلية الاقتراع، والذي من شأنه إيلاؤهم مكانتهم المستحقة وتمكينهم من أداء دورهم الحقيقي.
نحو إرساء الديمقراطية التناسبية داخل الأحزاب : هناك أسباب أخرى لضعف دور الأحزاب العربية وبالتالي مساهمتها في ضعف الممارسة الديمقراطية والعجز عن إرساء مبادئها في الواقع، منها خصوصا : '- رسوخ الحسب الاجتماعي والسياسي المتمحور حول القبيلة والعشائرية أو الطريقة والكيان الديني. ظهور أحزاب عقائدية، يمينية ويسارية، تتعامل مع الواقع تعاملا جراحيا ثبت فشله في التأثير على ذلك الواقع، مما يجعلها تستبطئ الطريق الانتخابي وتسعى إلى اختصار الطريق إلى السلطة بوسائل انقلابية، مدنية باستغلال النقابات والصحف، أو بوسائل عسكرية باستغلال الضباط'. وهنا تبرز خطورة تهميش الكفاءات السياسية والأكاديمية على الديمقراطية، وتبرز بالتالي أهمية إرساء الديمقراطية الداخلية بالأحزاب، تبعا لتقييم الأصوات وفق نظام التنقيط سالف الذكر، سواء في الترشح للمناصب القيادية بالحزب أو للتصويت على قوانينه الداخلية وسياساته ومقترحاته.

عبد اللطيف البوزيدي- كاتب من المغرب-القدس العربي اللندنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق