الأربعاء، 21 يوليو 2010


أثنار: خبير القلاع الأمامية والحروب الاستباقية
06/07/2010
لكي يبث نداءه العاجل الداعم لإسرائيل، اختار السيد خوسيه ماريا أثنار، رئيس الوزراء الإسباني السابق صحيفة 'التايمز' اللندنية، الصحيفة البريطانية المحافظة، ربما ليتناسب المنبر والحال مع المقال. فصحيفة 'التايمز' من أعرق الصحف الغربية، مرّ على إنشائها ما يفوق القرنين وبنت بالأقدمية 'مصداقية مشهودة' على مقاس الرأي العام الغربي طبعا، كما أنها مافتئت تعزز مصداقيتها تلك لدى رأي عام براغماتي حدّ العنصرية و'مصلحجي' حدّ التغاضي عن التلفيق والزور، بتحيُّزها الفاضح ضد القضايا العادلة للشعوب المستضعفة، إذ كانت الصحيفة سباقة إلى إثارة العديد من القضايا الخلافية والزوابع السياسية ذات الصلة بالعرب والمسلمين على الخصوص، ليتّضح فيما بعد نقص أو زيف معلوماتها ومصادرها. أليست 'التايمز' من أعادت مؤخرا إلى الواجهة قضية تسلح حزب الله وتخزين الصواريخ بجنوب لبنان وقدمت 'أدلة' سرعان ما اتضح تهافتها على غرار أدلة كولن باول الشهيرة حول برنامج العراق الكيماوي المزعوم؟ ألم تكن 'التايمز' هي من أعلنت، زورا ربما، أن هناك اتفاقا سريا بين السعودية وإسرائيل لفتح المجال الجوي للمملكة أمام ضربة جوية لإيران؟ أليست نفس الصحيفة دائمة التشهير بالمقاومين والتنظيمات المقاومة التي تنعتها بالإرهابية بلا أدلة موضوعية سوى ادعاءات الصهاينة ومَنْ وَالاهم من ساسة الغرب؟ لهذه الأسباب اختار السيد أثنار صحيفة التايمز منبرا ولكن أيضا وبالخصوص لأنها تدعم إسرائيل وبلا مواربة بافتتاحياتها الواسعة الانتشار، فقد دأبت على الْتِماس الأعذار للكيان الصهيوني بعد كل جريمة نكراء يرتكبها، ولم تتوانَ عن نصرة إسرائيل حتى عندما استعملت القنابل الفسفورية ضد الفلسطينيين المحاصرين العزل، معنونة إحدى افتتاحياتها: 'الفسفور الأبيض' إسرائيل أمة حريصة وقادرة على محاسبة نفسها' (وهو نفس المنطق الذي يتكرر حاليا في قضية التحقيق في الهجوم الدّامي لقراصنة الصهاينة على أسطول الحرية) وتضيف التايمز:'إسرائيل دولة ديمقراطية، وهي على خلاف عدد من جاراتها الدول العربية، تملك الإرادة لمحاسبة نفسها'(عن القدس العربي عدد6424 ليوم03/02/2010) علما أن 'التايمز' كانت سباقة إلى كشف ماهية تلك القنابل المحرّمة دوليا وفي نيتها آنذاك بلا شك إبراز 'عدم سريان القانون الدولي على إسرائيل' وبالتالي تعزيز هيبتها والحد من تآكل قدرتها على 'الرّدع'. كما لم تقصّر التايمز في نصرة إسرائيل عندما أهانت الولايات المتحدة برفض إيقاف الاستيطان في القدس، وكتبت في هذا الصدد:' لا ينبغي على الحكومة الأمريكية أن تنسى أنّ إسرائيل تمثّل أهمية استراتيجية كبيرة...وهي شريك صعب بالتأكيد لكنّه جاد وجدير بالثقة'.
أعتبر شخصيا أن السيد أثنار، كداعم متفان ولا مشروط للكيان الصهيوني، قد أجاد اختيار 'التايمز' منبرا لمقالٍ أرادَه مُدَوِّيا، ربّما ليعيد إلى اسمه بريقه على الساحة الدولية فيرفع أسهمه (وأسعاره) في بورصة المحاضرات والاستشارات السياسية، لعله يحظى مثل نظيره البريطاني 'بلير' بصداقة عائلة حاكم تملك بلدا وشعبا كما يملك هو يَخْتاً وخدَماً. لكنّ أثنار أخطأ التقدير ولم يكن مقاله كما تَوَقَّعَهُ، فالدّعوات إلى دعم إسرائيل مثل 'الهمّ على القلب' من كثرتها ولا شك أنها ستزداد تكاثراً كما هي العادة كلّما تورّطت إسرائيل. لا جديدَ إذن في نداء أثنار، فالغرب يدعم الصهاينة بنداءات وبدونها، لكِنْ، ما الذي جعل أثنار يرى ضرورة ملحَّة في التذكير بأهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة للغرب؟ ما الذي يدفع سياسيا كبيرا متقاعدا ولا علاقة ظاهريةً له بإسرائيل، ما الذي يدفعه إلى الدعوة إلى حمايتها واعتبارها قلعة أمامية متقدّمة من قلاع الغرب بل أهمها على الإطلاق؟ لأول وهلة، يبدو أن لديه أسبابا موضوعية وجيهة منها خشيته من أن يتحوّل الموقف الرسمي الغربي من 'تجاوزات' إسرائيل من العتاب إلى العقاب، ويتحوّل موقف شعوب الغرب من الاستياء إلى العداء، خصوصا بعد قرصنة أسطول الحرية، غير أن هناك أسبابا أخرى ذاتية محضة دفعت الرجل إلى الانبعاث مجددا من رماد مستقبله السياسي الذي أتت عليه تفجيرات مدريد في 2003 ، من بين تلك الأسباب في اعتقادي : كونه يعتبر نفسه في سلة واحدة مع الصهاينة حين يتعلق الأمر بعرب أو مسلمين، فالإسبان واليهود كلاهما تعرّضا 'لغزوهم' وما زالا تحت 'تهديدهم'، ومن ثَمّ فوجود إسرائيل ضروري لإيقاف 'حملات' المسلمين القادمين من الشرق في مهدها. كونه يعتبر أن من خططوا لتفجيرات مدريد ومن نفّذوها من المسلمين إنما كانوا يستهدفونه وحكومته بالدرجة الأولى، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، فأثنار كان من أكبر خدّام صقور البيت الأبيض ومن أشدّ المتحمّسين للحرب الاستباقية على العراق على الرغم من معارضتها من لدن غالبية الشعب الإسباني، لذلك فهو لا يرى مانعا من أن تخوض إسرائيل ويخوض الغرب من أجلها معارك استباقية، بل إن في ندائه تحريضا صريحا على نصرتها ظالمة أو مظلومة. أليس الرجل خبير حروب استباقية، ألم يكن على وشك إشعال فتيل حرب ضد المغرب من أجل جزيرة ليلى (تورة) التي يعتبرها إسبانية وهي لا تبعد عن الشاطئ المغربي إلا بعشرات الأمتار كونه أيضا خبير قلاع أمامية متقدمة، ولا بأس بل يجب أن تكون تلك القلاع مقتطَعَةً من أرض'العدو'، بمنطق الشريط الأمني، فإسبانيا تحتفظ منذ قرون بقلاع أمامية على أرض المغرب وبمياهه الإقليمية تتمثل في مدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وغيرها، لذلك فالسيد أثنار لا يجد غضاضة في دعوة الغرب إلى دعم 'قلعته' الأمامية المقتطعة من أرض العدو والمغروسة في خاصرة المنطقة العربية والإسلامية.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي -القدس العربي اللندنية

كسبُ جولةٍ من جولات الصراع مع الصهيونية؟
17/06/2010
قبل الخوض في ما إذا كانت ملحمة أسطول الحرية قد شكّلت بداية منعطف تاريخي أو ضربة قاصمة لإسرائيل أو نهاية مرحلة وبداية أخرى، لنتّفق أولا ومن الآن فصاعدا أنّ تسميات الصراع الدائر منذ ما يزيد عن الستة عقود حول القدس والمقدسات وباقي فلسطين المغتصبة مثل تسمية: 'الصراع العربي-الإسرائيلي' أو 'الصراع العربي-الصهيوني'، قد أضحت تسميات بالية غير شاملة حتى لا نبالغ ونقول إنها صارت تسميات غير صالحة للأستعمال، ما دام معظم العرب قد طرحوا مسؤولياتهم التاريخية والقومية أرضا،بطرحهم مبادرتهم التي فسَّرها عدوُّهم استسلاما وإطلاقا لليد في ما تبقى من مقاومين وممانعين.
فلْنُسَمِّ الصّراعَ 'الصراع الإسلامي-الصهيوني' (نسبة إلى الدول الإسلامية وليس نسبة إلى التنظيمات االإسلاموية المثيرة للجدل)، لانخراط إيران وتركيا فيه كل بطريقته وأسلوبه الخاص الذي يزاوج لديهما -على الأقل ظاهريا أو من حيث المبدأ- بين مصلحة الأمة والمصلحة القُطرية البحتة، وقد لا نبالغ بتسميتنا الصّراع ولو مُبكّرا: 'الصراعَ الإنسانيَ-الصهيونيَ' نظرا للأنخراط الكثيف للشعوب والمنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني عبر العالم في دعم الطرف الفلسطيني بكل أطيافه خصوصا منذ فرض الحصار على غزة والحرب الفسفورية الجائرة عليها.
فهل جاءت 'ملحمة الحرية'، رغم ما كلّفته من أرواح توّاقة إلى نصرة الحق وإحقاقه ولو كان ثمنه الشهادة، جاءت لتعلن - بشكل متعمد ربما من الطرفين التركي والإسرائيلي فيما يشبه التحدي التركي وقبول التحدي إسرائيليا- بداية مرحلة جديدة من الصراع بالمنطقة، تتخذ من المجال الحقوقي والمدني المتنامي المكانة والنفوذ مسرحا لها، وتجعل من أدواتها فرضَ إِعْمالِ القانونِ الدولي وضغطَ المجتمعات المدنية على الحكومات؟ وهل تنخرط الأنظمة العربية في المواجهة الحقوقية المدنية والإنسانية التي ستشعل فتيلها بلا شكٍّ ملحمةُ أسطول الحرية، أم أنها ستفوت الفرصة (كما فوّتتها غداة تقرير غولدستون الأشدِّ وقْعا وإِدانة لإسرائيل) لمجرد منع 'تعاظم' الدور التركي بالمنطقة عبر نصر سياسي وحقوقي على الأقل، في وقت ما زال بعضٌ من تلك الأنظمة يبحث فيه عن مخرج لتعاظم الدور الإيراني؟ ما أشبه الصراع مع الصهيونية بمواجهةٍ في لعبةٍ تُكْسَبُ خلالها الأشواطُ شوطاً شوطاً لكسب الجولات التي تقود إلى كسب المواجهة،مع فارق جوهري طبعا أن الصراع حول فلسطين ليس لعبة بقدر ما هو صراع وجودي مصيري، ما أشبه مراحل هذا الصراع بمراحل لعبة تُرغِمُ الشُّعوبَ والقوى الحيةَ والأطرافَ الدولية كافّةً على المتابعةِ والالتفاتِ يَمْنةً ويَسْرةً وبوتيرة تتصاعد حينا وتخفت حينا لتتبع أفعال وردود أفعال الطرفين، في صراع غير متكافئ لكنه محيِّر ومشوق لأنه عصيٌّ على الحسم من هذا الطرف أو ذاك، ولأنه صراع يستمد شرعيته الدولية واستمراريته من عدالة قضية شعب بأكمله، كما يستمد الاهتمام الدائم من غرابةِ واستحالةِ استمرارِ الظُّلمِ الذي يُلاقيه الفلسطينيون والحيفِ الذي يلحقُ قضيتَهم.
وفي نفس السياق كانت'ملحمة أسطول الحرية' بمثابة نقطة ثمينة ومِفصليةً خسِرتْها إسرائيلُ ستقود في اعتقادي إلى طيّ شوط يُمَكِّنُ تركيا من كسب جولةٍ وافتتاح جولة جديدة، وربما يفيد هنا التذكير أن تركيا قد دشّنت هذه الجولة منذ الحرب الإسرائيلية على غزة، في محاولة منها كسر دور الحاضر الغائب الذي طالما لعبته الأنظمة العربية حين لا تتورط علانية في التغطية أوالمشاركة أو ما يدعوه بعضها 'الشراكة في صنع السلام'، جولةٍ جديدة أعلنت عن دخول تركيا اللاعبَ الجديد إلى حلبة الصراع ولو من البوابة الحقوقية أو على مستوى تجميد العلاقات والاتفاقيات. لقد أوْقَعَت ملحمة أسطول الحرية العالم بأسره في حرج كبير، وأوقعت الجيشَ والحكومةَ الإسرائيليين معاً في فخّ 'قبول التحدي التركي والدولي' لاعتبارهما تلك الخطوةَ الجَسورةَ على رمزيتها، قبل أن تكون أسلوبا لكسر الحصار على غزة، نوعاً من كَسْرِ الإرادة ومحاولةً للحدِّ من العربدة الإسرائيلية 'المشروعة' والتي لا تحدُّها حدود، بريةً كانت أو بحريةً أو من أي نوع آخر، فإسرائيل لا تجهل أن حَمولةُ بضع سفن مهما كبُرت لم تكن لتسُدَّ الخصاصَ المهولَ في المُؤن أو لتقضي على الأزمة الغذائية والصحية التي يعانيها قطاع غزة منذ سنوات. هذا عن أهمية مبادرة 'أسطول الحرية' التي كانت بلغة الشطرنج نقلةً يستحيل منعها، أرغمت إسرائيل على خرق كل 'قوانين اللعبة من أساسها'، أما عن الدور العربي في مرحلة ما بعد 'ضرب أسطول الحرية' فهو دور لم تتبلور بعد ملامحه بقدر ما تبلورت ملامح الموقف الشعبي، إذا استثنينا فتح مصر معبر رفح والذي لا يُعلم لحد الساعة ما إذا كان بداية لفك أحادي الجانب للحصار أم تكتيكا لامتصاص أي غضب شعبي مصري قد يجعل من تغييرالنظام المحتضر أو الإطاحة به هدفا له، وإذا استثنينا أيضا سرعة مبادرة السلطة الفلسطينية إلى إدانة الهجوم على أسطول الحرية والتي يمكن أن تُعزى إلى الرغبة في التبرُّئ من تهمة مباركة الحصار المفروض على غزة من جهة واستعادة دور 'المفاوِض' الذي بدأت السلطة تفقده أكثر من رغبتها في المواجهة والعودة إلى دور 'المقاوِم'، إذا استثنينا ردتي فعل مصر والسلطة الفلسطينية الناجمتين عن اعتبارات داخلية والتي أغلب ظني أنها ظرفية وتمويهية بل يمكن القول إنها لن تكون إلاّ انحناء مؤقتا للعاصفة التي أثارتها ملحمة أسطول الحرية والتي كانت بحق من النوع الذي لا يمكن أن يمر دون إثارة زوابع، ما عدا هذين الموقفين الدفاعيين، لا أعتقد أن ردود الدول العربية الجماعية أو الفردية يمكن أن تتعدى المألوف من مجرد الشجب والتنديد والإدانة، وفي أقصى الحالات اللجوء إلى مجلس الأمن الذي يعلمون أن إسرائيل ترفض قراراته منذ عقود بلا تبعات تذكر.
لكن بالمقابل، وحتى لا نستبق الأحداث باستنتاجات مبكرة أو سابقة لأوانها، ولكي نبقى في مرحلة طرح تساؤلات مشروعة نابعة من فرضيات منطقية، يجدر في اعتقادي أن نتساءل عن أقصى ما يمكن أن يجنيه الفلسطينيون وقضيتُهم من دخول تركيا على خط الصراع مع الصهيونية العالمية، فما الذي يمكن أن يتمخّض عن كل هذا الحراك التركي الذي سبق وأعقب الهجوم الإسرائيلي الدامي على أسطول الحرية، من تصريحات نارية مباشرة واجتماع لرئيس الوزراء السيد أردوغان مع وزير دفاعه والقائد الثاني للجيش التركي وكذا اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الذي تدارس الوضع استثنائيا من بين ما تدارسه، ناهيك عن إلغاء أو تجميد الاتفاقيات الاستراتيجية العسكرية لتركيا مع الكيان الصهيوني وحتى طلب اجتماع حلف النيتو ومجلس الأمن الدولي؟ بعبارة أخرى ما الذي سيجنيه الفلسطينيون غير التباعد 'المحمود على كلّ حال' بين تركيا وإسرائيل وعودة العلاقات بينهما إلى نقطة الصفر؟ وهل يمكن أن يتمخض عن تبعات ملحمة أسطول الحرية فك الحصار على قطاع غزة حتى تصير الخطوات التركية ذات معنى وذات جدوى؟ وأخيرا وليس آخرا، ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة وأوروبا في احتواء'الغضبة التركية' بعدما فشلتا إلى جانب العرب في منع استمرار الاستيطان والعربدة الإسرائيلية؟
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

الجامعة العربية: صنمُ الوحدةِ الذي لم يَعُدْ يُمَجِّدُه أحد
10/06/2010
مرة أخرى نعى 'رأي القدس' ليوم الجمعة 04-06-2010 النظامَ العربي الرسمي بعد الاطلاع على هزالة ما توصل إليه وزراء الخارجية في اجتماعهم في إطار الجامعة العربية والذي كان مخصصا لتدارس الهجوم الإسرائيلي الدامي على أسطول الحرية، فهزالة الموقف العربي كانت فعلا بمثابة عَرَضٍ آخَرَ من أعْراض الموت السريري للعمل العربي المشترك.
وبذلك وجب النعي في كل مرة يتم فيها إخراج رفاة الجامعة لتمثيل دور 'صنم الوحدة' الذي لم يعد يمجِّده أحدٌ. لقد ذكّرَني 'رأي القدس' بالجامعة العربية وكأنه يذكّرني بعزيز دفنَّاه، أَوَمَا زالتِ الجامعةُ العربية حيَّةً؟ أما زالت عَرَبَتُها تُدَخِّن وهي المُنْقلِبَةُ على قارعة طريق الوحدة؟ كان سقف انتظارات مؤسّسيها عاليا وتوهّموا وأوهموا الشعوب العربية أن الجامعة مدخل إلى الوحدة السياسية العربية، دون أن يحسبوا حساب التيارات المتغربنة والمتصهينة أو على الأقل حساب النزعة القُطْريةِ المتجذِّرة التي لم تُلْغِها الوصاية العثمانية وأسهَمَ في تكريسِها الاستعمار الأوروبي، فقد أُفْرِغَت الجامعة من مضمونها الوحدوي منذ التأسيس لأنها لم تُمنح أبدا السلطات أو الأدوات القانونية الكفيلة بضمان وحدة القرار العربي وإلْزاميته لكافة الأعضاء، وبقيت على مدى عقود تلعب دور جمعية للعلاقات العامة أو في أحسن الأحوال دور مجلس تشاور يتم فيه تجاذب أطراف الحديث حول كل شيء دون الالتزام بشيء، أو لِنَقُلْ إنّ الجامعة أصبحت تكتفي بدور 'المكتب الإعلامي العربي' لتتحول في المحصّلة إلى 'دِرْع سياسي وإعلامي جماعي واقٍ' يُجَنِّب أنظمةَ الدولِ الأعضاء تحمُّلَ المسؤولية أو التبعات فردياً. ففي موضوع أسطول الحرية وتبعاته ما الذي كان سيضير النظام المصري والسلطة الفلسطينية لو أنهما بادرا منذ زمن إلى التنديد بالحصار والمساهمة في فكّه وهما الأقدر على ذلك بعد إسرائيل طبعا؟ لكن النظام المصري والسلطة وجدا نفسيهما مضطرين أكثر من باقي الأنظمة العربية إلى تغيير موقفهما من النقيض إلى النقيض والاحتماء تحت عباءة الجامعة، الدرع الواقي الجماعي، ليظهر لنا السيد عمرو موسى المحدود الصلاحيات كأي كاتب عمومي، مرغما لا بطلا، وقد دُفع دفعا إلى تلاوة بيان مستنسخ مكرور ومطرّز بعبارات الإدانة والشجب والتنديد، والحق أن الرجل بذل من الجهود الشخصية الكثير دون جدوى لإعادة الروح إلى هياكل الجامعة المتكلّسة وطالب بمزيد من الصلاحيات وإلزامية القرارات، وأخذ لأجل ذلك مسافة معقولة من النظام المصري كلّفته حملات إعلامية شرسة من ذلك النظام عينه الذي سبق أن وجَّهَ ضربة قاصمة للعمل المشترك والقرار العربي الموحد، بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بشكل منفرد ودون سابق تشاور أو تنسيق. ليس هناك ما يمكن أن يُكْسب الجامعة العربية المصداقية والفعالية التي تفتقدها منذ نشأتها، أكثر من منحها الصلاحيات السياسية والاستراتيجية وكذا إحداث آليات لتفعيل إلزامية قراراتها (كإعادة تفعيل حلف الدفاع العربي المشترك مثلا)، أما أوجب واجباتها فهو في نظري السعي إلى سحب المبادرة العربية التي خفضت سقف المطالب العربية إلى أدناه وشجعت إسرائيل على العربدة بالمنطقة كما يحلو لها، مع دراسة كل الاحتمالات والبدائل الممكنة بما فيها احتمال الحرب إن لم يكن منها بُدٌّ، وإلا فلن يكون على السيد عمرو موسى إلا أن يضع المفتاح تحت السّجاد وينصرف إلى تقاعد مستحق آن أوانه.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

العطر والقارورة بين 'كنافة' نابلس و'مسخّن' عارورة
03/05/2010

بينما تبدو منطقة الشرق الأوسط على شفير الانفجار، واحتمالات المواجهة العسكرية بأكثر من جبهة في أقصى مستوياتها منذ فترة ما قبل حرب رمضان 73، وفيما إسرائيل منشغلة بمواصلة الاستيطان وتهويد الأرض والمقدسات والتخطيط لتنفيذ أحدث صيغ الترانسفير وطرد الفلسطينيين من وطنهم وفي نيتها دقّ آخر مسمار في نعش السلطة وربما ضم الضفة، وفيما يستعد رباعي الممانعة ويضع آخر اللمسات على جاهزيته للمواجهة، فيما كل هذا الحراك وهذه الجلبة قائمان يجد رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض،
صاحب السلام الاقتصادي، سلام 'البطون وأضواء النيون'، يجد الوقت وهدوء الأعصاب الكافي للتنقل في ربوع الضفة متذوقا كنافةً هنا ومْسخّناً هناك، غير آبه بما يحاك لفلسطينيي الضفة وغير مراعٍ مشاعرَ المحاصَرين المجوَّعين من الفلسطينيين بغزة الصامدة، وكأنه يُمعِن في توجيه رسائلَ إليهم مَفادُها 'أنْ مَنِ اتّبع هُداي فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يَسْغَبون'. بينما تُعِدّ إسرائيلُ إذنْ، في فورةِ عِنادٍ أرْعَنْ، 'مْسخّنَها' المُقرِف والمُقَرْفَنْ، يحلو لصاحب شعار 'سلامُ الاقتصادْ، خيرٌ فيّاضْ' أن يبذل الجهد والنفيس للتقيّد في موسوعة غينيس، بطبق كنافة هنا وصحن مسخّن هناك و'مَدْري إيشْ' هنالك، بدل السعي كما وعد مرارا إلى التقيّد كدولة مستقلة وذات سيادة في لوائح الأمم المتحدة، وكأنه يخشى أن يسبقه إلى غينس المسخن الهندي أوالكنافة البرازيلية ! فالدكتور فياض بخطواته الشجاعة هذه كخبير 'طبخات معصلجة'، وبالإشراف شخصيا رفقة ثلة من وزرائه على كنافة نابلس ومسخن عارورة، ربما يسعى إلى 'تسخين المقاومة'(نسبة إلى المسخّن) عبر بوابة التراث، مقاومة من نوع جديد مبتكر (ولا غاندي في أيّامه)، سهلة الاستعمال وفي متناول الجميع، يمكن أن نطلق عليها 'المقاومة بالمسخّن'، وهي على فكرة مقاومة قليلةُ الخسائر والأعراض الجانبية، تخمةٌ أو إسهال لدى البعض ويتم بلوغ االمراد أي 'التشبث بالأصالة والارتباط بالأرض'.وكعادتي في جمع مظاهر التخلف العربية 'الأصيلة' كما يجمع بعضهم الطوابع البريدية، خمنت أن يكون سبب 'انتفاضة المقالي والمشاوي' هذه، إصابة السلطة الفلسطينية بعدوى يمكن تسميتها 'عدوى أكبر (تفاهة) وأول (حماقة) في العالم'. صحيح أنها عدوى أصابت العالم أجمع لكن على مستوى الأفراد والجمعيات ولم تلق الرعاية والاحتضان من أعلى السلطات كما هو الحال لدينا. من قال إنه ليس لدينا نحن العرب نفس الطبائع ونفس العقول في الكعوب من المحيط إلى الخليج ؟ ألا نتشاطر ونتبادل التجارب الفاشلة ويشد بعضنا أزر بعض في الحفاظ على المظاهر المتخلفة وصيانة الظواهر الشاذة ؟ خير مثال يمكن أن نأتي به في سياق موضوعنا هو ظاهرة تهافت الأنظمة على تحقيق 'أكبر كذا أو أول كذا'، فمن أكبر كبة في لبنان إلى أكبر مشوي في تونس إلى أكبر كسكس بالمغرب، إلى أكبر كشري وأكبر سحور وأعمق وأسمك وأذلّ سور، وأكبر 'وقفةِ أيتامٍ، تحت الأهرام' ، مرورا بأكبر كنافة وأكبر مسخّن وأطول دبكة، في استباق غريب لِوَلائِم وأفراح تحرير القدس ! ومن أول ملتقى 'لتلاقح' الأديان إلى أول مزلج في الصحراء، ليكتمل المشهد ب'مفخرة' أول عرض علنــــــي للملابــــس(أو بالأحرى الخيوط) الداخلية النسوية في العالم العربي ! لا عجب أن تكون كل هذه 'الإنجازات' العربية تافهة وسطحية ومُكْلِـــــفة ومُتَكــَلِّفة، ولا غرابة أن يدبّ الهوان إلى أوصالنا بهذا الشكل، فالتخلف لا ينتج إلا التخلف، لِما يؤدي إليه من ضعف ودونية وتزلُّف. فمن يوقف مسلسل المهازل هذا؟ يكفينا 'فخرا'، إن كان الفخر هو ما نصبو إليه من وراء مثل هذه البهرجة وهذه الشطحات، أننا أكبر أمة مقسمة في العالم، نملك أكبر احتياطيات الطاقة وأكبر الصناديق 'الأَسيادية' (ندعوها سيادية!) وأحسن موقع جغرافي في العالم، ومع ذلك لا نفرط في مراتبنا التي هي الأدنى في العالم، وبالأخص حين يتعلق الأمر بما يمكث في الأرض وينفع الناس، وليس بمجرّد الزَّبَد الذاهب جُفاءً. عن أي سبْق وعن أية ريادة نتحدث ونحن نملك أدنى معدلات التنمية وأعلى معدلات الفقر والبطالة والأمية والفساد والانحراف والجريمة في العالم؟
عبد اللطيف البوزيدي- كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية
لمصدر : القدس العربي
في نقد الإعلام المبرمَج ودخول 'غوغل' على الخط
30/4/2010
هالني ما جاء في افتتاحيةٍ لإحدى صحف المهجر العربية بشأن تنظيم القاعدة، ليس لأن كاتبها أتى بجديدٍ حول الهجمة المريعة والمحزنة الأخيرة بالعراق، فمثل نغمته الهتشكوكية حول خطورة ووحشية تنظيم شبح لم تعد تطرب أحدا لكثرة ترددها على المسامع، ولا أحد عاد يجهل أن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، بغض النظر عن طبيعته المقاومة حسب البعض أو الإرهابية حسب البعض الآخر، صار مشجبا تعلق عليه الأطراف الداخلية والخارجية كل مآسي العراق، أو منشفة يمسح بها مجرمو الداخل والخارج أيديهم بعد كل مذبحة يباشرون أو يُسَهّلون تنفيذَها، ولا أحد ما زال يصدق بالحرف كل ما ينسب لهذا التنظيم المحيّر، وإن أجهد بعضُ الكتّاب أنفسَهم في إبراز دوره دون غيره من المتسبّبين في فيضان 'وادي الدّماء' بالعراق. إنما هالني في الافتتاحية المذكورة مدى استماتة أقلام عربية وفي جو لندني يعبق بنسائم 'حرية التعبير' وحصانة الإعلام، استماتتها في محاربة تنظيم شبح تدعي لوحدها القدرة على رؤيته في أوضح صورة، في مقابل عدم جرأة نفس الأقلام على مجرد ذكر ما تبدَّى وثبت من جرائم 'ناعمة' وأخرى 'وحشية' اقترفها وما يزالون من تسميهم باختصار واحتشام:'الاحتلال'.
هالني كل ما تكدس بنفس الافتتاحية من تأكيدات لا تستند إلى أية وقائع أو حقائق ثابتة، أنا الذي هجرت مثل تلك الصحافة منذ أمد وبالذات بسبب قلة الموضوعية، لأعود إليها في إطلالةِ فضولٍ عابرة على أمل أن تكون الطفرة الإعلامية قد غيرت فيها شيئا، فأجدَ حالتها قد استفحلت، وأجدَ التحيّزَ والتهافت قد بلغا لديْها مداهما، فلم تعد تأبه لما يقال عن تحيزها المفضوح لأنظمة بعينها بالمنطقة وحليفها الاحتلال المتدثّر بدشداشة الديمقراطية المزعومة. بل أكثر من ذلك عدت لأجدَ تجرُّدَ تلك الأقلام من الموضوعية قد زاد عن حدّه، وافتقارَها إلى الوقار الإعلامي النابع من احترام ذكاء القارئ قد تحوَّل إلى 'أَنِيمْيا' فكرية وإعلامية. كان الرجل يستميت جَهْد ما استطاع في تحميل القاعدة كل ويلات العراق، وكانت تأكيداته من النوع الذي لا يجرؤ عليه حتى خبراء شؤون التنظيم الذين غالبا ما ينطلقون من فرضيات ليصلوا إلى أخرى دون التورط في ادعاء امتلاك الخبر اليقين حول طبيعة تنظيم القاعدة أو تحركاته واستراتيجيته، فقد كان الرجل يؤكد جازما أن القاعدة 'تحاول إيقاظ الفتنة' وكأن فتنة العراق نامت ولو ليوم واحد منذ سبع سنوات، وأنها 'تستدعي الحرب الأهلية والمذهبية' (عدنا إلى فرضية استمتاع الإسلاميين بالقتال واحتفائهم بطقوس الحرب المسلّية) وأنها 'تتخذ الدعوة إلى انسحاب أمريكي ذريعة لاستباحة أرض العراق' (من يستبيح ماذا؟) أما درة تأكيدات كاتب الافتتاحية فكانت بالتأكيد قوله: 'حرصت القاعدة منذ اللحظة الأولى على استهداف أجهزة الأمن والجيش، أي استهداف ما يساعد على التعجيل بانسحاب قوات الاحتلال'، وبذلك صار من يحارب الاحتلال وأزلامه هو من يريد بقاءه.
صحيح أنه لا يمكن لمتأمل الهجمات التي تنسب إلى تنظيم القاعدة أو حتى تلك التي يعلن مسؤوليته عنها، إلا أن يقرّ بأن أساليبه خارجة عن المألوف حتى إسلاميا، بل يمكن وصفها كما وصفها صاحبنا بـ'الوحشية' ما دامت تحدث أضرارا بشرية فظيعة، غير أنها لا يمكن أن تتفوّق في الوحشية على أساليب المحتل الأمريكي من تعذيب واغتصاب ويورانيوم منضب...، أو أساليب الصهاينة من جعل المدنيين دروعا بشرية واستهدافهم بالقنابل العنقودية والفوسفورية... ولست أقصد بهذا الدفاعَ عن تنظيم شبح لديه من المنظّرين والناطقين الرسميين مَنْ يتناقلُ العالمُ في سرعة البرق بياناتِهم وبجميع اللغات، كما لا أقصد استحسان أساليب التنظيم الانتحارية التي فيها من الجبن والاتّكالية والتغرير والعشوائية ما يبعدها كلّيا عن الأساليب 'الجهادية' الدفاعية التي يرتضيها الإسلام بمختلف طوائفه ومذاهبه، وتصفها وصفا دقيقا مصادرُ تشريعِه، مِنَ التّعاملِ مع البشر إلى معاملة الشجر والحجر أثناء القتال، إنّما أقصد استنكار التّضليل الذي تمارسه بعض الكتائب الإعلامية للأنظمة، تضليل دافعُهُ في الحالة العراقية بالذّات هو في اعتقادي ما أسمته الدكتورة مضاوي الرشيد 'عقدة العراق' التي تعاني منها منذ الأزل معظم أنظمة المنطقة. كما أقصد بالتحديد استهجان محاولات صرف الأنظار عن الاحتلال الأمريكي الدنيء وما سبّبه وما زال يسبّبه للعراق وأهله، وجعله في منزلة من دخل العراق عن وجه حق ولا ينتظر للانسحاب منه إلا تبخُّرَ القاعدة لينصرف بعد إتمام مهمّته الإنسانية! إنه التطبيع مع الاحتلال والهيمنة الغربية في أوضح تجلّياته، بل هو في اعتقادي ما يسميه الكاتب صبحي حديدي 'تجميل وجه الهيمنة القبيح'.
وما دمنا بصدد الحديث عن 'القاعدة'، والقاعدة بـ'القاعدة' تذكر، فإنّ النظرة المقارنة بين تنظيم القاعدة والاحتلال يجب أن تبنى على قاعدة أكبر مجموع من الأذى وليس على قاعدة آخر ضحيّة. نعم لمواساة شعب العراق في كل ما يصيبه من القاعدة أو من غيرها، لكن ليس على طريقة 'لا تبْكِ يا بُنيّ، فالأشباح التي تُخيفُك سيطردُها العمُّ سام'. نعم وألف نعم للتقريب بين شيعة العراق وسنّته والتطرّق لأسباب تباعُدِهما، لكن رجاءً ليس على طريقة 'أسنانُك المسوّسة يا بُنيّ أكلَتْها الفارة (أو القاعدة)'.
لم أكن أتصوّر أن تصدر عن الإعلاميين العرب بالمهجر مثل تلك الافتتاحية إلى جانب روائع بعضٍ من أعمدة الإعلام العربي المعاصر، لذلك تبادر إلى ذهني حجم الضّرر الذي تُحدثه في الوعي الجماعي العربي بعضُ الخطوط التحريرية 'المائلة' مَيَلاناً غريباً، كما تساءلت عن سُبُل تمييز القارئ العربي بين الصالح والطالح من الخطوط التحريرية لوسائل الإعلام العربية المختلفة، في ظروف تعثر الديمقراطية وحرية التعبير وفي ظل غياب وسائلَ إحصائيةٍ تُمكِّن من إبراز الأكثرِ جدّية ومصداقية وتتبُّعا. كان ذلك قبل أن يبشّرنا السيد عبد الباري عطوان بدخول مؤسسة 'غوغل' على الخطّ كمؤسسة علمية وتكنولوجية متخصّصة، أقصد دخولها على خطّ الإعلام العربي، لتبوؤ كلّ مؤسسة إعلامية مكانتها اللائقة بها، وتتوّج الإعلام العربي الرصين في شخص 'القدس العربي' التي علمنا جميعا أنّ موقعها لوحده يستقطب ثمانية ملايين قارئ شهريا، أي ما يعادل المائة مليون سنويا، وهو رقم مذهل إذا علمنا أنّ مجموع مستعملي الإنترنت العرب لا يتجاوز الأربعين مليونا. لن أكتب عن مثل تلك الافتتاحيات بعد الآن، فقد صار بإمكاني بقليل من كبسات أزرار أن أتأكد من أنها لم تُلحق ضررا يستدعي الإصلاح، وأنها بقيت كما يجدر لها أن تبقى، مُجرّد صيحات في واد يُقارب عددُ رُوادِه الصّفْر.

عبد اللطيف البوزيدي - كاتب من المغرب - القدس العربي اللندنية

الثلاثاء، 20 يوليو 2010

كوميديا سوداء ل 'شاهد مَفْهِمْش حاجة!': حول تعليقات شعبولا السياسية!
7/20/2010


كان الحوار الذي أجرته 'القدس العربي' مع المغني الشعبي المصري 'شعبولا' أول ما استرعى انتباهي وأول ما بادرت إلى قراءته عند تصفحي موقع الجريدة، مع أن كلمة رئيس التحرير كانت حاضرة وتناولت موضوعا من الأهمية بمكان هو موضوع الثورة القرغيزية الحبلى بالعبر والدلالات بالنسبة للشعوب العربية. ضروري أن تُدْرَس وتُحلّل بكل تمحُّصٍ التصريحاتُ الدبلوماسية الرسمية لشخصيات مؤثرة، أو الأحداث المستجدة كالثورة القرغيزية 'المستمرة والمفتوحة'، فهي تمكن من استخلاص العبر والأدلة المنطقية على وجود أو استحكام داء من الأدواء، تماما مثلما استخلصت كلمة رئيس التحرير استنتاجاً لا يخرّ المنطق مفادُه أنه 'يبدو أن المشكلة لم تعد في الحكام العرب وإنما في الشعوب العربية أيضا'. مثل هذه الاستنتاجات تشير إلى الداء وتصف أعراضه الظاهرة منها والخفية لكنها لا تميط اللثام تماما عن أسبابه الحقيقية إلا إذا اقترنت بدراسات من نوع آخر هي غالبا في المتناول ألا وهي الدراسات الاجتماعية لنماذج 'الشخصية العامية' التي تشكّلُ أغلبيةَ الشعوب العربية بسبب ما هو مُتفشٍّ في أوساطها من فقر وأمية وكلّ مكوّنات وبَهارات 'خلطة التخلّف'. ولعل هذا هو ما انتبهت إليه 'القدس العربي' بإجراء حوار مع الفنان 'العامي' شعبولا الذي 'كبّرُوها في دْماغُه' فلم يعد يتوانى عن ركوب المستنقع السياسي المصري (وعلى أعلى المستويات خَلِّي بالَكْ!)، ويتصرف مثل فنانين 'زعماء' آخرين كشهود 'مفهموش حاجة'!. كان الحوار شيّقا لأنه كان مفيدا ومسليا في آن، إذ لم تغادر البسمة محيّاي وأنا أطالعه بشغف، بل إنه جعلني في مقاطع منه أخرق سكون الليل بقهقهات عالية، 'دمّو خفيف بشكل، شعبولّا دا!' قلت في نفسي مرارا وباللهجة المصرية انسجاما مع مقتضى الحال. لم يخب حدسي إذن وكان الحوار مع 'شعبولا' زاخرا بالمعطيات التي تسهّل تحليل شخصية رجل يتماهى فيه الملايين، الرجل الذي يمكن لوحده أن يشكّل عيّنةً تغني الباحثين الاجتماعيين عن عينات بحث مئويةٍ أو ألفيةٍ مُجهِدة ومكلفة، لينوب عن عوامّ وأمّيي الوطن العربي، الرجل الطيب الذي صدّق أنّ كبار البلد يكرهون إسرائيل فكَرِهَها وصمّ الآذان بكُرْهها، ولو علِم أنّهم صاروا يكرهون خصومها لُأحبَّها لِتَوٍّه وصمّ (بردو) الآذان بحبها، إذ يكفي أن يشير عليه بذلك 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد' ليتصل بكاتب كلماته قائلا : ' كَوَّرْ وِهَاتْ أَعطيهُم، مَاجُورْ' .
قلت بالحرف في مقال سابق عن جمال مبارك، والشخصية بالشخصية تُذْكر، أنّه 'حتى قبل ترشحه قد جمع من المعارضين ما يكفي لإنجاح 'شعبولا' لو ترشح ضده' وأضفت: 'مع احترامي للأخير كفنان شعبي ملتزم'، لكن فاتني أن أضيف''ملتزم بما ينصحه به 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد، واللي ميقدرش يزعّلهم'، كان حديثي عن ترشح 'شعبولا' ضد جمال مبارك من باب المجاز لكنه تحول بعد أسبوعين فقط إلى واقع بشكل من الأشكال، فـ'شعبولا' ينوي فعلا الترشح، لكن ليس للرئاسة، معاذ الله! فهذه بالذات 'محدّش يقدر يكبّرها في دماغه' لسببين وجيهين، الأول أن 'عقل باله قال له ياكل عيش ويربط الحمار مطرح ما يقول صاحبه' والسبب الثاني بكل بساطة أنه 'لا يريد مثل البرادعي أن يستولي على منصبِ رئيسٍ لِسَّه مشبعش مِنّو'، إنما يريد 'شعبولا' الترشح لمجلس الشعب وبسّ، أضف إلى ذلك، وحتى لا يُساء فهم كلامِه، أنه اشترط على نفسه 'كابن حلالٍ مبتدِئ' أن يترشح بعيدا عن دائرة السيد يوسف بطرس غالي، 'وبعدين الكِبيرْ كِبيرْ، آهْ!' ألم أقل لكم أني 'أخشى' أن يهزِمَ 'شعبولا' جمال في الانتخابات؟ ها هو ذا بنفسه يخشى من نفسه على يوسف 'صاحب الفضل عليه'. وطبعا وحتى لا يساء فهمي، فأنا لا أجادل في حق أي مواطن مصري في 'الترشح' لمجلس الشعب أو حتى 'التحرّش' برئاسة مخوصصة مصون كما فعل البرادعي دون أن 'يخشى أو يختشي'، فشعبولا في النهاية لا يختلف كثيرا (أقصد فكريا) عن نسبة مهمة من البرلمانيين العرب، بل إنه يتفوق على معظمهم في الجهر 'بكُرْهِ إسرائيل' والدعوةِ إلى إزالتها، هذا إذا كان ما يزال على كرهه إياها ولم يتصل به 'أولاد الحلال' ليحذّروه من تهمة معاداة السامية المسلطة على الرقاب هذه الأيام، ولأن هؤلاء 'بيقروا جرايد' فإنهم سيحذرونه من أن الاعتذار لن ينفعه مع إسرائيل، وسيُذكِّرونه بمصير السيد فاروق حسني الذي زحلقته إسرائيل حين كان على وشك انتزاع منصب الأمين العام لمنظمة اليونسكو رغم اعتذاراته، ولم يشفع له لديها كونه 'راجل معروف للدنيا وِمْصاحِبْ الرّؤسا' على غرار السيد البرادعي. هنا قد يقول لي قائل : 'لا ترعب الرجل بإسرائيل أكثر مما هو مرعوب، فقد كان على وشك أن يُعلّقَ من لسانه لو غنى عن البرادعي حين كان ما يزال يظنه من أقارب الرئيس!' صحيح أن الرجل كاد يفقد لسانه مصدر رزقه فيصير مثل ذلك الذي صار يجري بين الجموع ويصيح واضعا يده على خدّه : 'ضاع مستقبلي ضاع مستقبلي' فلما لحق الناس به ليستفسروه وجدوا أنه زمّار انفجر خده من شدة النفخ في المزمار. بحق لا أريد أن أرعب الرجل، فهو قبل وبعد كل شيء رب أسرة طيّب وإن كان على نياته 'شيئا ما!'، إنما أردت أن أَسُوقَ تصريحاته العفوية والساذجة أحيانا، كمثال صارخ بل مثالٍ 'صادحٍ وشادٍ' عن الضحالة المعرفية والفكرية والخواء السياسي المُطْبِق الذي وصل إليه عشرات الملايين من المصريين والعرب عموما، من فرط التفقير والحرمان من تعليم أساسي ذي مستوى يكفل الحد الأدنى من المعرفة ويضمن إمكانية استمرار التعلُّم والتثقيف اللازمين لممارسة سليمة للمواطنة حقوقا وواجبات. وليْتهم على الأقل تُرِكوا في حالهم ولم يَزُجَّ بهم 'أولاد الحلال اللي بيقروا جرايد' في لعبة وصراعات لا قِبَلَ لهم بها ولا يفهمونها أصلاً،فحوّلوهم تارة إلى ديكور لديمقراطيات صورية، وتارة أخرى إلى مطبِّلين ومزمِّرين وسُعاة أوراقِ تصويتٍ يضعونها حيث يُمْلى عليهم.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب من المغرب - القدس العربي اللندنية

المعلمون العرب: بين اختلال النظم التربوية وحيف الأنظمة السياسية
6/4/2010

يعتبر الإصلاح السياسي المدخل الطبيعي والمنطقي لأي إصلاح قطاعي كإصلاح النظام القضائي أو الصحي أو التربوي أو غيره، ذلك لأن الإصلاحات القطاعية أو المجالية رهينة بالإرادة السياسية الأكيدة، الكفيلة بمنح تلك الإصلاحات 'القوة' التشريعية والتمويل اللازمين للتخطيط السليم وإشراك الكفاءات وما يليها من تتبّع وتقويم ومحاسبة. كيف يعقل إذن أن نستسيغ كل دعوات ومحاولات الإصلاح القطاعية في العالم العربي، في غياب الإرادة السياسية غيابا واضحا يجسّده جمود الأنظمة السياسية واختلال القوانين والدساتير؟ وهل يمكن إنجاح الإصلاحات دون عمليات التتبّع والتقويم والمحاسبة التي تستمدّ جدّيتها وشفافيتها من جدّية وشفافية النظام السياسي، الحاضن الرئيسي لكلّ النُّظم القطاعية؟
إنّ في معظم دساتير الدول العربية مواد مثيرة للجدل لتعارضها مع المبادئ الديمقراطية أو تقييدها للحريات المدنية أو السياسية، وكثير من قوانينها موروثة أو متقادمة، كما أن البرلمانات العربية تتشكل في معظمها من قلة غير مؤثرة من الكفاءات العلمية والأكاديمية ومن خليط هجين من الأعيان والمُعيَّنين والأميين وأنصافهم، وبالتالي فإن بانتفاء التشريعات والقوانين المناسبة وانتفاء إمكانية تعديلها وتطويرها، يستحيل إيجاد أرضية ملائمة لإرساء الإصلاحات القطاعية. فإصلاح قطاع التعليم مثلا يبقى دون مفعول بل يصير مُرْبِكاً إن لم يتم الخوض مسبقا في مسائل سياسية كالإجماع عبر المؤسسات التشريعية حول فلسفة تربوية (ميثاق وطني) تكون منطلقا لتحديد الثابت والمتغيّر في السياسات التعليمية المتعاقبة، وضمان استمرارية وتناسق تلك السياسات وإن تغيّرت الحكومات. في موضوع إصلاح التعليم بالذات وحتى إن تمّ الإجماع على ميثاق للتربية والتكوين وسنّ قوانين وتشريعات تضمن استمرارية وتناسق السياسات التربوية المتعاقبة، ستبقى نتائج الإصلاح رهينة بما يرصد لمشاريعه من إمكانات مادية مهمة في معظم المجالات كالبرامج والمناهج والموارد البشرية والبحث العلمي والتكوينات وغيرها. ومن ثمّ فإن ترجمة الإرادة السياسية للإصلاح في الواقع، لا تكون بإكثار المشاريع والتزمير لها واستجداء انخراط الفاعلين التربويين المُرْبَكين المُنهَكين أصلاً، بل بالعمل على رصد الإمكانات المادية اللازمة وتتبع أوجه صرفها، إذّاك فقط يمكن للإرادة السياسية أن تتبلور في الواقع، وليس بالتذرّع بكون الإنفاق على التعليم قد تجاوز ربع ميزانية الدولة كما هو الحال في المغرب مثلا، فليكن الثُّلُث أو الخُمُسَيْن أو حتى نصف الميزانية إن حَضَرَت الإرادةُ السياسية التي يؤمن أصحابها فعلا أن التعليم 'يبيض ذهبا' وإن آجلاً، فمعدلات الإنفاق على التعليم في الدول العربية جد منخفضة مقارنة مع مثيلاتها في الدول المتقدمة وبعض الدول النامية، إذ تتراوح في الدول المغاربية بين 600 و 1000 دولار للتلميذ الواحد سنويا بينما يبلغ معدل الإنفاق على التعليم في فرنسا مثلا ما يفوق عشرة أضعاف متوسط معدلات الإنفاق العربية! لا يكاد الملاحظ العادي يجد في الغالب فرقا من حيث التجهيزات والوسائل بين المدارس والفصول العربية ونظيراتها في الدول المتقدمة، فأين يُصرف الفرق الشاسع بين ميزانيات التعليم العربية ونظيرتها في تلك الدول؟ وما الذي يبرر الفرق الواضح في المردودية؟
إن مدرسة 'النجاح' كما يحلو للبعض أن يسمّيها لا تعني فقط الساحات المعشوشبة أو الفصول المزيّنة أو المعلّم 'المُهندَم'، وإنما أيضا نوعية البنية التحتية والصيانة الدورية، وتكوين المعلمين وباقي الأطر التربوية والإدارية والرفع من أجورهم وتعويضاتهم ومن الخدمات الاجتماعية المقدَّمة لهم، وإعداد البرامج والمناهج بناءً على نتائج بحوث علمية جادة، وإرساء إدارة تربوية رشيدة وإشراف تربوي مستقل ونزيه، إضافة إلى وضع آليات التتبّع والتقويم والمحاسبة، وهي كلُّها مجالات كان للتقصير في الإنفاق عليها (إن لم نقل التقتير مع بعض الاستثناءات) تأثيرٌ واضحٌ على المردودية العامة للأنظمة التعليمية العربية. وللأسف ليس عشرات ملايين التلاميذ، أطر المستقبل، هم الضحايا الوحيدون للتقتير في الإنفاق على التعليم وبالتالي تبخيس دور التربية والتعليم في تطوُّر الشعوب ورقيِّها، وإنما هناك ضحايا آخرون بمئات الآلاف هم المعلمون العرب، ويا لمحْنةِ المعلمين العرب! فإذا أضفنا كثرة أعدادهم إلى توجُّه الأنظمة العربية نحو التقتير في الإنفاق على التعليم بالذات، تبيَّن لنا سبب تدني أجور المعلمين العرب عموما وما يترتّب عنه من شظف العيش واستحالة الاستعداد المادي والمعنوي لتطوير الأداء والرفع من المردودية المهنية، وإذا أضفنا إلى تدني الأجور انعدامَ أو نقصَ الحقوق النقابية للمعلمين وحِدّةَ الردود غير المبرّرة على مطالبهم المُلحّة، من منع النقابات و'الطعن' في الهندام واللِّحَى بالأردن إلى التهديد 'بالويل والثبور' في الجزائر مرورا باقتطاع أيام الإضرابات من الأجور بالمغرب، تتّضِحْ لنا محنة المعلم العربي ومعاناته المادية والمعنوية في وضعية لا يُحْسد عليها بين ضعف وعشوائية النُّظم التعليمية وتخلُّف الأنظمة السياسية واختلال أولوياتها واختياراتها.
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية

إصلاح الأمم المتحدة، قبل فوات الأوان
05/04/2010
قبل بضع سنين تعالت انتقادات شديدة لمنظمة الأمم المتحدة وتوجه العديد من كبار المفكرين والسّياسيين إلى المناداة بضرورة إصلاح المنظومة الدولية برمتها، لكن سرعان ما خفتت تلك الانتقادات والدعوات وكأنها لم تكن إلّا بَالُون اختبار أطلقته القوى المهيمنة دائمة العضوية وبالأخصّ منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. يحدث هذا في وقت يرى العامّةُ قبل المختصّين أنه يتعيّن بالفعل إدخال تعديلات جوهرية على هيئة الأمم المتحدة من حيث تشكيلتها وتسييرها ولاسيما نوعية ومستويات التمثيل بها وكيفية التصويت على قراراتها وتوصياتها، أو لِمَ لا، بكل بساطة إعادة تصور واستحداث هياكل منظومة دولية جديدة بمعايير أكثر ديمقراطيةً وتناسباً.
خفتت إذن الدعوةُ إلى إصلاح منظمة الأمم المتحدة وإن لاحت لفترة قصيرة بوادر الرغبة في توسيع العضوية الدائمة بإلحاق بعض كبريات الدول من أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كما تعالت المطالبات بتمثيل جنوب إفريقيا للقارة السمراء. لقد اتضح أن لا أحد لديه الرغبة في متابعة الموضوع إلى مداه، رغم الأهمية إن لم نقل الأولوية القصوى التي يكتسيها إصلاح هياكل الأمم المتحدة لتفادي التداعيات الخطيرة للملفات المُلِحّة التي باتت تثقل كاهل 'المجتمع الدولي' وتهدد السّلام العالمي.
ومع كل بوادر جنوح الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى الهيمنة والفردانية، وتخلّيها عن لعب الأدوار المنوطة بها كوسيطة في حل النزاعات الدولية، ونزوعها نحو استغلال مكانتها ونفوذها في المنتظم الدولي لتحقيق مصالحها بل وحتى المآرب الشخصية لحكامها والدائرين في فلكهم وشركاتهم العابرة للقارات، ومع صمت وخضوع باقي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لأسباب تتعلق بالتبعية السياسية أو الاقتصادية، وبالأخص منها الدول ذات الاقتصاديات والديمغرافيا المهمة أو التقدم التكنولوجي والنووي كالهند وباكستان واليابان وألمانيا وإيطاليا والبرازيل وإيران وتركيا، مع كل ذلك لا أعتقد أن الوضع الحالي يمكن أن يستمر طويلا، وذلك للأسباب التالية :
1. انكشاف تفرّد أمريكا وبريطانيا وفرنسا بـ'قصف' الدول 'المارقة' بمقترحات القرارات حسب ما تقتضيه مصالحها ومصالح حلفائها، واكتفاء روسيا والصين بحماية بعض حلفائهما وشركائهما الاقتصاديين مثل كوريا الشمالية وإيران من 'القصف القراراتيِّ' باستعمال الفيتو.
2. نشوب صراع سياسي واقتصادي في الخفاء والعلن بين أعضاء مجلس الأمن الدائمين المنقسمين إلى مجموعتين متباينتي المصالح والتوجهات. 3. تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وما سينتج عنه لا محالة من تغير الخريطة الاقتصادية وبالتالي الاستراتيجية بالعالم.
4. تكاثر الأزمات والنزاعات السياسية الدولية وعجز المنتظم الدولي عن حلّها، فقد تراكمت وصارت مزمنة نزاعات حدودية بالعشرات وانتشرت دعوات انفصال في مختلف القارات، ناهيك عما يحصل هنا وهناك في العالم من جرائم وإبادات، دون أن يبادر إلى منعها أو معاقبة مرتكبيها.
5. تزايد الدول 'المارقة' المعارضة للنهج الدولي الحالي وحصول (أو قرب حصول) بعضها على سلاح الردع النووي (مثل كوريا الشمالية وإيران مثلا) ينبئ بالتغير الحتمي للوضع الاستراتيجي في العالم. كل هذه الأسباب والعوامل مجتمعة ستؤدي في اعتقادي إلى حتمية تغيير المنظومة الدولية بشكل من الأشكال، أتمنى ألا يكون دمويا كما في السابق. فهل ستعقل القوى العظمى هذه المرة قبل أن يكون الأوان قد فات؟ وهل تتجنب سيناريو إنشاء 'عصبة الأمم' و'الأمم المتحدة' على التوالي بعد حربين عالميتين أذاقتا البشرية ما أذاقتاها من ويلات؟
عبد اللطيف البوزيدي-كاتب مغربي-القدس العربي اللندنية

الديمقراطية التناسبية: نِدِّيَةٌ محلية ودولية 02/04/2010
لم أقصد باقتراح 'التناسبية في الديمقراطية' في مقال سابق ('القدس العربي' عدد 6408 في 15/01/2010) أن أَحيدَ عن مبادئ الديمقراطية القائمة على التعددية والتداول وفصل السلطات وغيرها. كما لم أكن باقتراحاتي في هذا المجال لأدَّعِيَ ابتكار نمط جديد من أنماط الاقتراع، فقد استحدث مُنَظِّرُو السياسة ما يكفي منها وما زالت صالحة وذات مصداقية علمية أكيدة ما لم يشُبْها تحريف أو تزوير إبَّان التطبيق. لم أدّعِ إذن تغيير جوهر الديمقراطية وإنما انصب اهتمامي على التفاصيل، واكتفيت باقتراح تقني بسيط لكنني أعتقد أنه على درجة كبيرة من الأهمية، يتمثّل في سُلّم تنقيط مُحْكم يُبْنى وفق معايير متفق حولها قطريا أو دوليا إذا اعتُمد مبدأ التناسب في إصلاح هياكل الأمم المتحدة المتقادمة، سلّمٌ يُعْتمد قبل أي اقتراع لتقييم أصوات الناخبين وتقنين الترشيح للهيئات التمثيلية في كل دولة أو تقييم أصوات الدول تناسبيا، قبل أي تصويت لطرح قرار أممي أو اعتماده، تقييم وتقنين ينبغي ألاّ يُعتبرا تمييزا بين المواطنين أو بين الدول بمعناه السلبي ، كالتمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الطائفة أو العشيرة أو العقيدة، وإنما هو تمييز إيجابي وصحي على أساس معايير النضج والكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية يتوخى الرفع من مستوى أعضاء الهيئات التشريعية والتمثيلية وكذلك من مستوى منظمة دولية كالأمم المتحدة، تبتغي تحقيق العدالة الدولية بينما لا تَمُتُّ بِصِلَة الى هياكلُها ولا قوانينُها الداخلية، إذ يمكن إرساء التناسبية أمميّا على أساس معايير الديمغرافيا وحجم الاقتصاد ومستوى التطور العلمي والتكنولوجي مثلا. وفي كل الأحوال فالديمقراطية التناسبية ستسهم في قطع الطريق أمام مفسدي الانتخابات من جهلة وراشين ومرتشين، ونافِذين متحَكِّمين، وضِعافٍ خاضعين كَرْهاً أو طوْعاً.
إذ كيف يعقل أن تُترك أبوابُ المؤسسات التمثيلية الشعبية مُشرعة أمام أمثال هؤلاء ليعبثوا بمصائر مواطنيهم ويعيقوا تطوّر ونماء الأوطان؟ ألم يكن ضعف المؤسسات التشريعية بالوطن العربي مثلا وتفشي الجهل والأمية في دواليبها، من أهم أسباب وقوعها في مطبات تاريخية عديدة ليست أقلَّها خطورةً المصادقةُ على اتفاقيات مفروضة وغير متوازنة كبعض الاتفاقيات التجارية ، وأخرى مهينة و'انشطارية' لا تكف عن الانفجار و'توليد' التّبِعات كاتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة ؟ ألم تسهم الرداءة العلمية والفكرية لتلك المؤسسات في التغاضي عن الارتهان للغرب والارتماء في أحضانه ضدا على مصالح الشعوب وإرادتها وقضيتها المركزية؟
وفي المقابل ألم تكن جودة و قوة المؤسسات التشريعية الأوروبية والأمريكية من أهم عوامل تقدمها وتوحُّدِها ضدا على التباينات الصارخة والتناحر السابق بينها؟ في واقع الأمر مَن يتأملْ 'الديمقراطيات' العربية التي شاخت دون أن تغادر المهد، يجِدْ أنَّ التمييز السلبي على أساس طائفي أو عشائري أو حتى عائلي هو السائدُ رغم كل المساحيق التي لاتُخفي، إلّا كَمَا الغربالُ الشمسَ ، أنانيةً مُخزية و تعصُّبا مَقيتاً، هذا إذا تعذّر الإكراه أو الشراء المباشر للذِّمم، ما دامت لأصوات العالِم والجاهل والناضج والقاصر والرّاشد والسّفيه نفس القيمة ونفس القدر من الأهمية لدى الترشّح أو الانتخاب! فإذا كان لا بدّ من التمييز بين المرشحين قصد اختيار الممثلين، لاستحالة تمثيل الجميع للجميع،فليكن ذلك وفق معاييرِ استحقاقٍ منطقية وعلمية، كالاختيار على أساس معايير النضج والكفاءة العلمية والقدرة على تحمل المسؤولية، والذي ليس إلا تمييزا محمودا معمولا به دون تحفظ من أيٍّ كان، في اختيار الإداريين والأمنيين والقضاة وكل من له علاقة بالسلطتين التنفيذية والقضائية، فما المانع من العمل به في المجال التشريعي الذي يعتبر قطب الرحى في العملية الديمقراطية ؟ بل لماذا تُستثْنَى لدينا نحن العرب بالذات السلطةُ التشريعية عمْدا منذ نشأة الأنظمة العربية الحديثة، من اعتماد معايير استحقاق علمية وموضوعية في اختيار القائمين عليها؟ لقد نتجت عن 'إشراع' باب المجال التشريعي والتمثيلي 'شرْعنةٌ' رسمية وشعبية حقيقية وتمجيد غير مفهوم للرداءة والمحسوبية والارتزاق ، فغَزتِ البرلماناتِ العربيةَ جحافلُ الجَهَلَة والمرتزقة والمترحلين بين أحزاب معتلة بنفس علل الأنظمة، في نقض صارخ لقواعد التعاقد السياسي مع الناخبين، فصار شَخيرهم يملأ جنبات البرلمانات العربية إذا التزموا بالحضور، فأحدثوا فوضى القوانين وضعف واختلال التشريعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية التي لا قبل لهم بها. وحتى حين يتم الانتباه إلى خطورة الأضرار التي يلحقها الجهلة بالمجال التشريعي ويقع تقنين الترشح يتم ذلك لرفع العتب والحرج حيث يُشْترط حصول المرشحين لرئاسة المجالس على الشهادة الابتدائية التي يحصل عليها أطفال في سن العاشرة، وكأن المطلوب من البرلماني أو عضو المجلس الجماعي هو فقط القدرة على كتابة اسمه وتهجي ما يُحرِّر له غيرُه من خطابات رنّانة جوفاء، لا أن يكون على قدر من النضج الفكري والكفاءة العلمية والقدرة على تحمّل المسؤولية، ليكون خير ممثل لناخبيه، مدافعا عن حقوقهم ومعبرا عن همومهم وتطلعاتهم. أما عن مسوغات اقتراح المعايير السالفة الذكر كأساس لسُلَّم تقييم أصوات الناخبين وتقنين الترشح قبل الاقتراع، فيمكن إجمالها فيما يلي:
- بالنسبة لمعيار النضج فهو معيار معمول به حاليا ولا يحتاج إلا إلى مزيد من التفصيل باعتبار مؤشر السن كأن تمنح نقطة لمن تتراوح أعمارهم بين 18و25 سنة مثلا ونقطتان لمن بين 25و40 سنة وثلاث لمن تعدوا أو تعدّين الأربعين.
- وبالنسبة لمعيار الكفاءة العلمية الذي يستحسن أن يمنح الوزن الأكبر وبالتالي العدد الأكبر من النقط، فيمكن اعتماد مؤشّريْ المستوى الدراسي والإنتاج العلمي أو الفكري أو الثقافي كمؤشرين دالَّيْن على تحققه لدى الناخب أو المرشح، ومن ثم تمنح نقاط معينة لكل شهادة دراسية وأخرى للابتكارات العلمية والإنتاجات الفكرية والثقافية بعد ثبوت قيمتها وفق شروط.
- أما فيما يتعلق بمعيار القدرة على تحمل المسؤولية فيمكن أن يرصد له مؤشران دالان على تحققه، هما مؤشر الوضعية العائلية لتمنح نقاط معينة للمتزوجين ونقاط أقل للعزاب الذين لم يخبروا بعد المسؤولية الاجتماعية، ومؤشر الوضعية المهنية التي غالبا ما تعتبر من دلالات القدرة على تحمل المسؤولية. وأخيرا وليس آخرا لابدّ من الإشارة إلى أن الفوائد المباشرة وغير المباشرة للديمقراطية التناسبية متعددة وتتراوح بين تطوير الكفاءة التشريعية للأنظمة ورد الاعتبار للكفاءة والاستحقاق وتشجيع العلم والمعرفة، مرورا بالحد من تجاوزات السلطتين التنفيذية والقضائية اللتين لا تعدمان مع الأسف أطرا تحترف الالتواء على التشريعات وتعطيلها أو إفراغها من مضامينها في غياب نضج وكفاءة أعضاء المؤسسات التشريعية والتمثيلية.
عبد اللطيف البوزيدي- كاتب من المغرب- القدس العربي اللندنية

'رويترز' والمستنقع السياسي المصري
25/3/2010
قراءة تحليلية لتقرير 'رويترز' حول حالة بورصة الرئاسة في مصر.
ربما حفاظا على 'مصداقيتها' لم تشأ وكالة 'رويترز' أن تُفوِّت الإدلاء بدلوها حول مسألة الرئاسة أو انتقال السلطة التي طفت على الساحة السياسية المصرية منذ أن بدأت المساحيق التجميلية والديبلوماسية تعجز عن إخفاء ملامح الشيخوخة المتقدمة التي وصل إليها الرئيس حسني مبارك. لكننا ندرك أن وكالة 'رويترز' للأنباء عنصرٌ أساسي في الأوركسترا (الجوقة) الإعلامية الغربية التي تحضِّر الرأي العام العالمي لأي تدخل سياسي أو عسكري غربي وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط. كأن 'رويترز' تَطَّلِعُ مسْبقا على أفكار ساسة الغرب أو ربما يُطْلعونها على مفكراتهم أيضا، من يدري؟ أو كأنها تقرأ طالع شعوب المنطقة، فهي غالبا ما تكون سبّاقة إلى التنبُّؤ بالأحداث لكنها تعرض تنبُّؤاتها بأسلوب مُدارٍ يُناغِم بين التهوين والتهويل حسب مواقف الغرب وانتظاراته، إذ وجدناها تهوِّل فجأة أحداث الصومال وخطر المليشيات الجهادية عليه وعلى ما حوله، مع أن الوضع لم يكن بأسوأ مما كان عليه دائما، ولم يكد ينقضي شهر حتى أُعْلِن عن بدء التدخل الأمريكي الجديد في الصومال. وهاهي ذي 'رويترز' تسعى اليوم إلى تهوين مسألة عويصة ومصيرية كمسألة الرئاسة في مصر، فبالنسبة إليها فإن 'سكون الوضع السياسي في مصر ظل يعتبر لفترة طويلة ميزة في منطقة مضطربة'، لكنها لم تُحدّد لمَنْ كان ذلك السكون 'ميزة' وإن كان يفهم من السياق فيما بعد أنه 'ميزة للمستثمرين'. فمتى كان السكون السياسي ميزة لأي بلد؟ وما الأهمّ، أن يكون في وضع البلد ميزةٌ لسياساته واقتصاده ومواطنيه أم أن يكون في وضعه ميزة للمستثمرين؟ أشك في أنّ 'رويترز' كانت ستُكلّف نفسها عناء تقريرها الأخير(القدس العربي عدد 6453 بتاريخ 09-03-2010 ص3) لو لم يتعلّق الأمر بعملية جراحية بالغرب لرئيس طاعن في السن وهي تعلم أن المنايا تخبط خبط عشواء خصوصا حين يتعلّق الأمر بقادة عربٍ بمستشفيات غربية (الهواري بومدين بالاتحاد السوفييتي سابقا، والملك حسين بولاية مينيسوتا الأمريكية، ياسر عرفات بفرنسا...)، أو بعبارة أخرى لولا عملية الرئيس مبارك ما كان الأمر يستدعي ذِكْرَ مصر، فوضع السكون ُممَيَّزٌ ومُرْضٍ وإن كان على حساب تقدم ورفاهية المصريين وحقوقهم المدنية والسياسية حتى لا نبالغ ونقول على حساب قضيتهم العربية المركزية.وعلى ذكر العملية الجراحية للرئيس مبارك، يمكن ملاحظة كيف أنَّ 'رويترز' ومثيلاتها تلعب دور الطبيب المختص في التخدير قُبيْل كل عملية 'جراحية' ينوي الغرب إجراءها لعضو 'مُصاب' من أعضاء كونه المُعَوْلَمِ الرّحبِ. وعلاوة على اعتبارها السكونَ ميزة، لم تكتفِ 'رويترز' بجرد المرشحين المحتملين لخلافة الرئيس مبارك، بل صنّفتهم ورتّبتهم وطفقت تعدِّد محاسن البعض وتركز على مساوئ البعض الآخر، فبالنسبة إليها يأتي جمال مبارك على رأس قائمة المرشحين المحتملين، مع أنْ لا أحد يجهل أنه الأكثر مثارا للجدل وأنه حتى قبل ترشُّحه قد جَمَع منَ المعارضين ما يكفي لإنجاح 'شعبولا' لو ترشّح ضدَّه، مع احترامي للأخير كفنان شعبي ملتزم. أما معيار 'رويترز' في وضع ابن الرئيس على رأس القائمة فهي طبعا (ولا ندري بأي صفة!) 'إجراءاتُه' الاقتصادية التي 'نالت استحسان المستثمرين'، سيقول قائل: عُدْنا إلى المستثمرين؟! فأُذكّره أنّ المستثمرين وسهولةَ توغُّلِهم (وتغوُّلهم) ومقدارَ ارتواءِ جشعِهم كانت دائما هي مقاييسَ الغرب الحقيقية لتحديد مدى رضاهُ على السُّكون-الميْزةِ لهذا البلد أو ذاك. يأتي في المرتبة الثانية على قائمة 'رويترز' عمر سليمان مدير المخابرات العامة الذي لا مساوئ له كسابقه في القائمة، ومن أهم 'محاسنه' دوره كوسيط في عملية السلام رغم أنها كما الجميعُ يرى تسيرُ دَوْماً إلى 'الوَرَا' على هوى إسرائيل، ومن محاسن عمر سليمان أيضا ودائما حسب 'رويترز': 'كونه مساعدا مقرّباً من الرئيس'، إلى هنا لم أعد أحتمل! لم يكن يخطر على بالٍ إلى عهدٍ قريبٍ أن تعمد إحدى أشهر وكالات الأنباء بالغرب المتحضر الديمقراطي إلى جعل 'القرب من الرئيس' مسوّغا شرعيا لتولي الرئاسة أو 'صنع الرئيس الجديد' على حد تعبيرها، بعيدا عن خيار الشعب، ذلك الشعب عينه الذي تقول 'رويترز': 'إنّ عمر سليمان لا يتحدث إليه كثيرا'!
أما محمد البرادعي فقد شككت 'رويترز' في إمكانية ترشحه للرئاسة أصلا ما دام قد وضع شروطا لا تُرَجِّحُ الاستجابةَ لها من لدن النظام، والأغرب أنها تجد في عدم الاستجابة لمطالب البرادعي أمرا عاديا لا يحتاج إلى تعليق أو مجرد جملة اعتراضية، وهي التي ذكرت في تقريرها نفسِه أنَّ من مطالبه ضماناتٍ لنزاهة الانتخابات! لم تكتفِ 'رويترز' بتعداد وترتيب شخصيات ذكرتها بالاسم كجمال وسليمان والبرادعي ونور ونظيف وإنما خلطت معها فئات وهيئات كاملة كالعسكريين والإخوان المسلمين وأحزاب المعارضة، فصارت كمن تنبّأ بـ'الجميع' وبِـ'لا أحد'، فقد استنفذت باحتمالاتها كل المصريين!
من كل هذه المنطلقات لا أعتقد أن وسائل الإعلام الغربية تستحق فعلا كل تلك الهالة التي طالما أثيرت حول 'مصداقيتها' و'مهنيتها'. فالمهنية وحدها لا تصنع المصداقية ما لم تقترنْ بالنّزاهة وتجنُّب الكيل بمقاييس مزدوجة، وهو ما صارت تفتقد إليه تباعا معظم وسائل الإعلام الغربية التي تحوّلت منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إلى منابر رسمية لعرض وجهات نظر ساسة الغرب لا غير، على غرار المنابر الرسمية للحكومات العربية. ماذا عنّا نحن العربَ؟ أين كنا سنلجأ لِنلْتمِسَ أنباءً؟ لقد كنّا لنبتلعَ أية أخبارٍ أو تحليلاتٍ تُقدَّمُ إلينا لو لم تكن هناك بعض الاستثناءات في المشهد الإعلامي العربي! كنا سنختار بين وسائل الإعلام الغربية ونظيرتها الرسمية العربية، وكنا سنصير كمن يتخيّر بين القنافذ باحثاً عن الأمْلس.
عبد اللطيف البوزيدي -كاتب من المغرب-القدس العربي اللندنية

شمس الممانعة تسطع من جديد! 15/3/2010

تَردَّد كثيرا على الساحة السياسية العربية في العقد الأخير مصطلحا 'الاعتدال' و'الممانعة' اللذين استُحْدِثا تلبية لضرورة اصطلاحية، ولملء فراغ دلالي ناجم عن بروز وضع جديد غير مسبوق، لم تعد فيه مصطلحات 'الكفاح' و 'المقاومة' ذات صيت وصارت تسمياتٌ أخرى مثل 'دول الطوق' أو 'جبهة التصدي' فارغةً من أي معنىً. مصطلحا الاعتدال والممانعة ليسا رسميين في القاموس السياسي للأنظمة العربية ، غير أن لهما صدى وانتشارا واسعا في الأوساط الصحافية والشعبية، مع تفرُّد مصطلح 'الاعتدال' بالظهور بين الفينة والأخرى في القاموس السياسي الغربي حين يُراد الإشارة إلى الأنظمة العربية المَرْضِيّ عنها. فما أصل تسميتَيْ 'الاعتدال'و'الممانعة' ؟ وما أسباب أُفُول نجم معسكر الاعتدال، بل ووقوعه بين طرفي كمّاشة؟ وفي المقابل ما الذي قوّى شوكة معسكر الممانعة وجعل شمسَه تسطع من جديد؟
فيما يخص أصل تسميتي 'الاعتدال' و'الممانعة' تجدر العودة إلى ما يفوق الأربعة عقود إلى الوراء، لتقديم لمحة مقتضبة عن الظروف التي هيّأت لانقسام العرب إلى معسكرين فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت الهزيمة السريعة والبيِّنة التي مُنِيَ بها العرب في حرب 67 والتي سمّوْها 'نكسة' ربما لتخفيف هول الصدمة،(كانت) أهونَ عليهم ممّا صاروا عليه بعد اتفاقية كامب ديفيد السيئة الذكر، فقد كانوا على الأقل متّفقين من المحيط إلى الخليج أنَّ إسرائيل كيان دخيل غاصب وعدو مشترك وجب اقتلاعه إن عاجلا أو آجلا، وكان بإمكان الشعوب العربية أن تتظاهر وتُزبد وتتوعّد وتُمنّي النفسَ بالتحرّر والوحدة، وكل ذلك بمباركة وتمويل ومشاركة من الأنظمة يوم كانت الشعوب وإياها سمناً على عسلٍ، على الأقل فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية...وكان أن زاد العربَ ثقةً نصفُ-انتصار حققوه جماعيا إلى حدّ ما في حرب أكتوبر 73، فازدادت رغبة الشعوب في مواصلة التصدّي حتى 'تحرير فلسطين، كل فلسطين' وهي عبارة طالما سمعناها وردّدناها صغارا مع إذاعة 'صوت فلسطين' أيام كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحظى بساعاتِ بثٍّ يوميةٍ ببعض الإذاعات العربية.شعار 'تحرير فلسطين، كل فلسطين' ذلك، تآكل مع الزمن كما تتآكل الشعارات العربية بالجملة، فقد صار بالنسبة للبعض ضربا من الخيال، وصار بالنسبة لآخرين مرادفا للرغبة في إبادة اليهود وبالتالي معاداةً للسامية، تلك التهمة التي صارت مثل بعض الملابس الجاهزة ملائمةً لجميع المَقاسات. كان حماسُ العرب إذن في ذُروته والتعبئةُ متواصلةً بعد الحرب في الفترة التي سبقت معاهدة كامب ديفيد، وبدا حلم استعادة الأرض والمجد ممكنا، بل ظُنَّ أن الوحدةَ نفسَها قد صارت قابَ مُؤتمرَيْن أو أدنى! لكن شيئا ما حدث، شيءٌ أخْمد حماس الشعوب العربية وقلَب تفاؤلَها حيرةً وغمّاً مُقيماً، فقد لمع النظام المصري مجددا لكن سلبيا هذه المرة، إذ لم يرَ في ما نظرت إليه الشعوب العربية على أنه انتصار في حرب رمضان، سوى دليلا إضافيا على 'قوة' إسرائيل وإصرار الغرب على مساندتها مهما كلفه ذلك، ودليلا على محدودية قدرة مصر على المواجهة ولو بدعم عربي. لقد تبيّن للنظام المصري أو لنقُلْ تهيّأ له ضعفُ مصرَ الاستراتيجيُ والاقتصاديُ أيضا رغم مخزونها البشري الضخم الذي كان يمكن أن يكون عنصر قوة لوْ وجد نظاما قويا يُقيم للسّيادة وزْناً (على غرار النظام التركي الحالي مثلا). رضخ النظام المصري إذن للضغوط والإغراءات، فالعصا والجزرة كانتا دائما حتى قبل ذلك الحين وإلى يومنا هذا من 'الأدوات' المفضلة للسياسات الغربية تجاه العرب والمسلمين، لكن المرحوم السادات لم يعترف إلا بالإغراءات في خطاب مدوٍّ أمام مجلس الشعب المصري، حين طفق يعدّد منافع اتفاقية كامب ديفيد ويمجِّد مليارات المساعدات والاستثمارات التي قال إنها ستنهمر على مصر والمصريين، والحقيقة أنه مثلُ مَنْ 'رشّهُمْ بالعسل وتَرَكَهم عُرْضةً للذُّباب'. هُنا، وللموضوعية لا بد من الإشارة إلى تقصير بل وتخاذل الدول العربية في دعم مصر خلال فترة ما بعد الحرب، رغم ما بذله شعبُها من تضحيات جِسامٍ، وبالأخص منها الدول العربية النفطية الخليجية والمغاربية، بصناديقها السِّيادية الضّخْمة واستثماراتها التريليونية في الغرب، ذلك الغرب نفسه الذي ترَكتْه ينفرد بمصرَ ويضغط عليها ويغريها بالفتات.
لم تكن معاهدة كامب ديفيد معاهدة سلام كما صُوِّرت بقدر ما تبيَّن لاحقا مع توالي تنازلات وخدمات النظام المصري لإسرائيل، أنها كانت معاهدة 'استسلام' لا تختلف كثيرا في نظري عن معاهدة 'فيرْسايْ' وغيرها من المعاهدات المُذِلّة، المُذيبة لهوية المستسلِمين والسالبة لسيادتهم وكبريائهم، لأنها تجعلهم يُؤدّون فروضَ الطاعةِ خدماتٍ وتسهيلات وحتى إتاوات نقدية أو عينية (كالغاز مثلا)، لِنَقُلْ ببساطة إنّ كامب ديفيد كانت معاهدة استسلام بالتقسيط المريح.
كانت تلك بداية 'الاعتدال العربي' الذي شَكّلت مصرُ نَواتَهُ الصلبة، وما أصْلبَها من نواةٍ في تلك الفترة لما كانت تتمتع به من مكانة ونفوذ في العالم العربي. ورغم فقدانها ريادتها العربية ربما إلى الأبد وخروجها من جامعة الدول العربية ونَقْلِ مقرّ الأخيرة من القاهرة إلى تونس، ظلت مصرُ مُصِرّةً على توسيع معسكر الاعتدال، فساهمت بفعالية في جرّ جزءٍ من أصحاب القضية الرئيسيين إلى ملهاة المفاوضات، وما لبث أن توسّع المعسكر بتوقيع الأردن اتفاقية 'وادي عربة' وتحقق بذلك لإسرائيل هدفها المتمثل في تطويق وعزل الضفة الغربية (وهي ماضية اليوم في تقويض وصاية الأردن على الأماكن المقدسة)، بعد أن تمّ لها عزل وتطويق قطاع غزة إثر تحييد (بل تجنيد) مصر لهذا الغرض، وهي صاحبة الوصاية الإدارية على القطاع. ومع ذلك لم تبرز تسمية 'الاعتدال' إلاّ حينما انضمت دول عربية أخرى إلى معسكر مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. لم تُوَقِّع الدولُ حديــــثةُ الانضــمام معاهداتٍ ولا اتفاقياتٍ مع إسرائيل، لكنها استعاضت عنها بقنوات أخرى أكثر احتشاماً ما لبثت أن ألغتها كالمكتب التجاري لإسرائيل في قطر ومكتب اتصالها في المغرب والأنكى من ذلك سفارتها بموريتانيا، أما المملكة العربية السعودية فقد وجدت لها مخرجا من الضغوط الغربية للتطبيع مع إسرائيل بذريعة تشجيعها على السلام، وجاءت بفكرة مبادرة السلام العربية التي قَبِلَها العربُ على مضض، معتدلين وممانعين، مع تحفّظ خجول من لبنان البلد المستضيف لقمة 2002، ومع أنّ إسرائيل رفضت المبادرة بما فيها من تنازلات وقالت فيها مؤخرا أنها وصفة لتدمير إسرائيل، فإنّ العرب أصرّوا على إبقائها مطروحة مما أطلق يد إسرائيل في المنطقة ومكّنها من الاستفراد سنوات بعد ذلك بآخر فلول المقاومة بلبنان وغزة، إذاك فقط تركّز المدلول القدحي لتسمية 'الاعتدال' وبرز في المقابل المدلول الإيجابي إن لم نَقُل 'التَّمجيدي' لتسمية 'الممانعة'، والعكس صحيح طبعا بحسب انتماء المستعمِل لهذا المعسكر أو ذاك.
عبد اللطيف البوزيدي- كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية